فن وأدب - مقالاتمقالات

سمير الإسكندراني

كان والدي الشاعر والمؤلف مصطفى الشندويلي طوال عمره ينام مبكرًا ليستيقظ مبكرًا، ليبدأ العمل في الصباح الباكر في مكتبه في المنزل، وكنت أنا على عكسه في نفس البيت، لا أكتب إلا في الليل وأنام بعد صلاة الفجر، أو حتى في السابعة أو الثامنة صباحًا، إذ الصمت التام ليلًا يشعرني وكأن الدنيا كلها صامتة من أجل أن أكون أكثر يقظة وتركيزًا في الكتابة، وكنت وقتها في نحو العشرين.

إختلاف مواعيد الكتابة بيني وبين والدي رحمه الله جعلني أستقبل بدلًا منه المكالمات التي كانت تأتيه بعد أن ينام، وكانت كلها من فنانين وكتاب، مخرجين وشعراء وروائيين وممثلين وملحنين ومطربين.

كنت أعتذر لهم بأنه قد نام، فكان منهم من يتجاذب معي أطراف الحديث وقد يطول ذلك لساعات، وكان هذا يعجبني ويسعدني، فهم نجوم أكبر مني سنًا وتجربة، فكنت أستفيد جدًا من حكاياتهم ومن المعلومات التي أعرفها من خلالهم عن الوسط الفني والفنانين والكتاب والمخرجين، والتجارب التي عاشوها.

سمير الإسكندراني صاحب المواهب المتعددة

أفادني هذا في تعاملي لاحقًا في الوسط الفني، ومن الذين توطدت علاقتي بهم خلال تلك المكالمات الليلية اثنان: إبراهيم نصر وسمير الإسكندراني، مع الأول أثمرت هذه الصداقة التليفونية بعض أعمال الأطفال التي رشحته فيها في الإذاعة والتليفزيون، ثم برامج الكاميرا الخفية الشهيرة التي عملناها معًا واستمرت لنحو عشر سنوات، وعملنا معًا مسرحيتين وفيلمًا.

أما سمير الإسكندراني فكان في العمل المشترك معي أقل وفي المحبة أوفر، وفي برنامجي الكوميدي “حسين على الهوا” عملنا فيه المقلب الشهير الذي لاقى نجاحًا كبيرًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قبلها بعشر سنوات كنت أكتب للتليفزيون برنامجًا دراميًا كوميديًا جماهيريًا على المسرح اسمه “الحكم للجمهور”، وكنت أستضيف فيه الفنانين بأفكار مختلفة وبشكل لم يظهروا به من قبل.

كنت أعرف أن سمير يغني بلغات عديدة، فاستضفته بسؤال: “لو كنت متوجهًا إلى مهرجان عالمي للأغنية، لكن الطائرة التي تحمل المطربين العالميين المشهورين –الفرنسي والطلياني والأمريكي– قد تعطلت، وأنك إنقاذًا للموقف ستغني بدلًا منهم جميعًا كل بلغته، فماذا ستقول؟”، فغنى في البرنامج أغنيات أجنبية شهيرة بلغات متعددة، فأبهر وتألق وأشاع المرح والابتهاج، وختم بأغنية داوود حسني “قال جاني وجايب كام وردة”.

اقرأ أيضاً: مارينا ابراموفيتش

نشأته وتأثره بوالده

سمير الإسكندراني

حين شاهدني في التليفزيون في برنامج السهرة “جديد في جديد”، وكان البرنامج الشهير وقتها قد استضافني وكان الحوار ناجحًا، فكان هو أول من اتصل بي بعد اللقاء، وقال لي حرفيًا: “تمنيت لو أنك ابني”.

استمرت صداقتنا لسنوات طويلة رغم أنه يكبرني بربع قرن، حكى لي عن والده كيف كان متدينًا يستضيف القراء في البيت لتلاوة القرآن كل أسبوع وإلقاء التواشيح الدينية، وأن هذه الجلسات شكلت بنيته الدينية، فقرأ كثيرًا في الدين وحفظ القرآن.

كانت له نظرة صوفية ورثها عن أبيه تاجر الموبيليا صديق المشايخ والملحنين والكتاب، من أمثال زكريا أحمد وبيرم التونسي وأحمد رامي.

حكى لي أنهم ذات مرة كسدت تجارتهم فلم يبيعوا أي أثاث في محل الموبيليا لفترة طويلة من الزمن، وذات يوم دخلت المحل قطة فأراد العمال أن يطردوها، فمنعهم والده وقال: “اتركوها هي تعرف طريقها”، وظل والده يراقبها وهي تتجول في المحل وتقفز فوق قطع الأثاث قطعة قطعة، حتى لامست الموبيليا كلها ثم انصرفت من المحل بهدوء.

في نفس اليوم بيعت كل البضاعة التي في المحل وسط دهشة الجميع وبعد طول بوار على حسب ما حكى لي، والقصة تعبر عن إيمان سمير الإسكندراني بتأثير الغيبيات وأسرارها التي لا يعلمها إلا الله.

سمير الإسكندراني والمخابرات

كنت أول مرة أسمع منه قصة التجسس بلا تزيين ولا تزويق ولا مبالغة، لقد سافر إلى إيطاليا كما يفعل الشبان عندما تضيق بهم الحال، وكان طالبًا في كلية الفنون الجملية، فكان يرسم اللوحات في الشارع ليبيعها للمارة ليتكسب رزقه، ومن هنا التقطته يد الموساد وجندته، جندته فعلًا! وقد سألته مندهشًا: “أنت بتتكلم جد؟”، فقال لي: “نعم إنها قصة مشهورة يعرفها الجميع”، ولم أكن قد سمعتها من قبل.

حكى لي كيف أنه كان شابًا غريرًا مفلسًا وأغروه بالمال الوفير، وأنه سرعان ما أفاق وشعر بحجم ما ورط نفسه فيه، فتوجه إلى شقيقه وصديقه سامي الإسكندراني باكيًا منهارًا وكان الوقت ليلًا، وذعر سامي من سماع الخبر الصاعق، وظل الاثنان بلا نوم من شدة القلق حتى الصباح، إذ طلب منه شقيقه أن يتوجه إلى المخابرات المصرية ليعترف بكل شيء مستفيدًا من قاعدة العفو عن المعترفين بإرادتهم، ففعل وسقطت بسبب ذلك إحدى شبكات التجسس الكبيرة، وقام عبد الناصر بتكريمه.

اقرأ أيضاً: الاندماج التمثيلي

معاناة الإسكندراني

سمير الإسكندراني على المستوى الفني لم يأخذ حقه، وعشت معاناته كاملة، وعشتها بحس الشاعر وشعرت بها أكثر مما يشعر بها هو نفسه، هو يعرف أن صوته مميز وموهبته كبيرة وخبرته أكبر، وأنه لا يليق به أن يبحث عن فرصة بعد هذا العمر وهذا التاريخ في وسط سادت فيه الشللية و”الصحوبية” على حساب الموهبة.

في فترة كان التليفزيون المصري يمطرنا بأغاني الأقل موهبة بكثير، وتذاع أغانيهم ليل نهار، بينما سمير الإسكندراني بموهبته الضخمة المحترمة يجلس في البيت لا يتذكره أحد، لمجرد أنه لم يكن يتقن النفاق والتملق، لأنه فنان حقيقي، ويضيق ذرعًا بالاحتكاك بالتافهين والمسطحين من المسؤولين عن الفن، والمخرجين الذين لا يعرفون قيمته، مما جعله شبه معزول عن الوسط الفني.

مواهب ضائعة

سمير الإسكندرانيشعرت بقمة الأسى من أجله وهو يحكي لي بسعادة أنه اتصل بعبد السلام النادي –وكان رئيس التليفزيون وقتها– وقال له: “عاوز أجيلك مكتبك أشرب معاك القهوة”، وأنه قابله في اليوم التالي صباحًا ليشكو له التجاهل الذي يعانيه، وأن النادي أمر له بأغنية تليفزيونية.

كان سعيدًا بمجرد أغنية للتليفزيون لقاء أجر زهيد، وهو الجدير لموهبته الكبيرة بالرعاية والاستثمار، لا مجرد إرضائه بأي شيء والسلام.

هي ليست مأساة شخص، بل مأساة مجتمع لا توزع فيه القسمة بالعدل ولا تقدر فيه المواهب الحقيقية، لقد عاش سمير الإسكندراني طوال عمره مظلومًا ولم يتذكروه –نسبيًا– إلا قبيل وفاته بقليل، رحمه الله.

مقالات ذات صلة:

عميد الأدب العربي طه حسين

قاسم أمين والأميرة نازلي

كل شيء صار من الممكن تلميعه وتنجيمه

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف