“المدينة” بين الغربة والاغتراب .. الجزء الثاني
ويبقي للقاهرة وضع خاص لا يعرفه غيرها من المدن، وهو “سُكنى المقابر”، إذ في مصر، التي قدست الموت وقدرت الموتى منذ آلاف السنين، يمكن للأحياء أن يعيشوا مع الأموات في مكان واحد.
نظرا لتفاقم أزمة السكن، ومع تميز المقابر المصرية بالامتداد الأفقي الكبير، علاوة على أن مناطق المقابر مهندسة ومنظمة حيث الشوارع المتقاطعة الوسيعة، بما تحرم منه العشوائيات، فضلا عن تشجيرها،
بما جعلها منطقة جذب بالنسبة للطبقات الفقيرة، لا سيما بعد أن أحاطت المباني الحديثة بمناطق “القرافات”، وأصبح بعضها أقرب إلى قلب المدينة من أحياء كثيرة، ترتفع فيها أسعار الشقق، ولا يستطيع تملكها إلا القادرين.
صورة التجمعات السكانية البائسة في الأدب
وهناك مدن عربية عرفت ظاهرة “المخيمات” التي يقطنها اللاجئون، والمخيم، حسب تعريف الأونروا هو: “قطعة من الأرض، تكون إما حكومية أو في أغلب الحالات استأجرتها الحكومات المستضيفة من الملاك المحليين،
ووضعتها تحت تصرف الأنروا لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في تسهيل احتياجاتهم الأساسية، ولا يمكن لسكان المخيمات تملك هذه الأراضي، ولكن لهم الحق في الاستفادة منها للسكنى فقط”.
تعد “المخيمات الفلسطينية” المتواجدة في لبنان والأردن والضفة الغربية لفلسطين مثالا واضحا على ذلك، وهي تعاني من كثافة سكانية كبيرة، وفقر مدقع، وقلة في الخدمات، وتراجع مستوى البنى التحتية. وإثر تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية نزح ملايين السوريين إلى الأردن وتركيا ولبنان، وقطنوا مخيمات جديدة.
وقد انشغل الأدباء بهذه التجمعات السكانية البائسة، سواء كانت عشوائيات أو قرافات، ليبحثوا فيها عن قصص غير عادية لا تعرفها المدينة.
وفي وقت مبكر تنبه يوسف إدريس إلى سكان مثل هذه الأحياء فكتب روايته القصيرة “قاع المدينة”، لكن الجيل الجديد من الروائيين المصريين أعطى لهؤلاء مساحة واسعة في إبداعه القصصي والروائي، ولعل رواية “فاصل للدهشة” لمحمد الفخراني هي الأبرز في هذا المضمار.
الطبقية في السينما
على المنوال ذاته سارت السينما، فبعد عقود من الحديث عن الواقعية التي بدأت بفيلم “العزيمة” جاء مطلع الألفية الثالثة ليجد السينمائيون أمامهم نماذج اجتماعية جارحة لا يمكن إغفالها، فولد فيلم مثل “حين ميسرة” وما على شاكلته.
والتوزع المعماري لأحياء المدن، المتفرق على عتبات التاريخ يعكس الصراع الاجتماعي الضاري بين الطبقات، ويرسم ملامح سكان المدينة، وطبيعة المشكلات التي يعانون منها.
مثال الجريمة المنظمة والفردية حيث السرقة دوما، والنهب والسلب أحيانا، وتفشي البطالة الجارحة، ووجود الآلاف من المشردين الهائمين على وجوههم وتحت الجسور، سواء من أطفال الشوارع أو بعض المرضى النفسيين الذين لفظهم أهلهم أو هربوا هم منهم،
ولا يجدون لهم مكانا في المصحات المكتظة بنظرائهم، وانتشار ظاهرة الإدمان على المخدرات والإتجار بها، علاوة على التعصب العرقي والمذهبي، والتهميش الاجتماعي، والتوتر المستمر بين أرباب العمل والعمال، والزحام وأزمات المرور، والغش التجاري.
الحياة في المدينة
ليس كل سكان المدينة سواء، فهناك من ولدوا فيها، فشربوا من طباعها الخشنة، وتواءموا مع تجهمها وقلة اعتنائها بأهلها، وهناك من أتوا إليها بعد أن ناموا طويلا بين جدران الطمي،
ومشوا على الجسور وسط عجيج ترابها يطالعون الزرع والضرع، وسمعوا من الجدات الجالسات فوق تلة الزمن حكايات عن الخير الذي يفوز حتما، والشر الذي ينهزم دوما.
يتقابل أفراد هذين الفريقين في شوارع المدينة، ويتفاعلون بلا انقطاع، من خلال التجاور في السكن، وعلاقات العمل، وتبادل المنافع والمصالح، وتقسيم الجهد، وتوزع التخصصات.
والمدينة هي القبلة الدائمة التي يحلم أغلب أهل الريف بالتوجه إليها، ليس فقط للبحث عن الرزق أو التحقق، إنما أيضا من أجل المتعة والنزهة والترفيه.
ففي المدينة توجد دور السينما والمسارح والملاهي والمتنزهات والمكتبات والمتاجر الكبرى التي تبيع كل شيء. وفيها يمكن لابن القرية أن يكون أكثر حرية، حيث لا أحد يعرفه، ولا أحد يعد عليه أقواله وأفعاله، لكنه بالقطع سيكون غريبا، خاصة إن كان فقيرا معدما، أو لم تكن لديه خبرة سابقة في التعامل مع المدينة وأهلها.
مدينة بلا قلب
وقد عبر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن هذه الحالة ببراعة في قصيدته “الطريق إلى السيدة” ضمن ديوانه الأول والأشهر والأجمل “مدينة بلا قلب”، إذ يقول في مقطعها الثاني:
“وسرت يا ليل المدينة
أرقرق الآهة الحزينة
أجر ساقي المجهدة
للسيدة
بلا نقود، جائع حتى العياء
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء”.
اقرأ أيضاً:
هل الفقر مرتبط بالنمو السكاني؟
هل روجت السينما للعنف والبلطجة؟
ذروة الاغتراب في ديوان مدينة بلا قلب
ويصل الاغتراب إلى ذروته في المقطع الأخير من القصيدة، والذي يوضح كيف لا تتصافح الأيدي ولا تتلاقى الوجوه التي تتصادف في الشوارع، ولا تتبادل حتى الابتسامات، بل يمضي كل منهم إلى غايته، غير عابئ بغيره أبدا. وهنا يقول الشاعر:
“والناس حولي ساهمون
لا يعرفون بعضهم.. لا يعرفون
هذا الكئيب
لعله مثلي غريب
أليس يعرف الكلام؟
يقول لي.. حتى سلام”.
بل يجدد الشاعر نفسه لوعته وغربته في قصيدة أخرى بعنوان “مقتل صبي”، حيث يقول:
“الموت في الميدان طن
العجلات صفرت، توقفت
قالوا: ابن من؟
ولم يجب أحد
فليس يعرف اسمه هنا سواه
يا ولداه!
قيلت، وغاب القائل الحزين
والتقت العيون بالعيون
ولم يجب أحد
فالناس في المدائن الكبرى عدد
جاء ولد
مات ولد”.
فوضى الزحف إلى المدن
وفي القرن العشرين بات زحف الحضر من أبرز مظاهر العولمة، كما يقول عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جيدنز، وتجاوز الأمر تلك المدن التي عرفها العالم القديم والوسيط، حيث بدأت الكرة الأرضية تعرف في النصف الثاني من القرن المذكور طريقها الوسيع نحو انتشار المدن،
وبدأت نسبة سكانها إلى مجموع سكان الكوكب تتعزز بمرور السنين، حتى بات من المتوقع أن يصلوا إلى 63% مع نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
وكما يقول باتريك جديس فإن المدينة: “ليست مجرد مكان في الفراغ فحسب، وإنما هي أيضا دراما مستمرة طيلة الوقت”، وجزء من هذه الدراما أن المدينة فاعل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي قوي،
فهي مجتمع تعددي حيث الدرجات المتفاوتة بين سكانه من حيث العوز والكفاية، ومن زاوية المشارب الفكرية والاتجاهات السياسية التي يعتنقونها، وكذلك من باب تنوع الأنشطة الاقتصادية.
على خلاف القرية التي يعمل معظم سكانها في الزراعة، وما يرتبط بها من رعي وتجارة وطحن وخبز وتصنيع أدوات العزق والحرث والحصاد والدرس، فإن سكان المدن يعملون في مهن عدة، مثل الصناعة والتجارة والخدمات والإنشاء، وكذلك المهن المتخصصة في الطب والمحاماة والصحافة والمحاسبة والتدريس وغيرها.
العولمة وتحديات المدن في القرن الجديد
وجاءت العولمة لتزيد من قدرة المدينة على أن تكون فاعلا في كافة مجالات الحياة ودروبها، لأنها راكمت على رأسها مشكلات جديدة تخص البورصة والبيئة واقتصاديات المعرفة ومواقع التواصل الاجتماعي، التي زادت أهل المدينة اغترابا على غربتهم المزمنة.
راحت الأنظار تتجه إلى قياس مدى إسهام المدينة في الإنتاج الاقتصادي، وتطوير الدولة ودفعها إلى الأمام، مع قدرتها على مجابهة تحديات العمل وحفظ الأمن والحاجة المتجددة إلى السكن،
وقدرتها كذلك على صهر “الثقافات الفرعية” –التي تتجاور وتتفاعل– في سبيكة واحدة متناغمة، أو على الأقل تتمكن من تقليص حجم الصراعات الناشبة بينها، أو إحداث حالة من التوافق تساعد على منع حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية أو التقليل منها إلى حد بالغ.
الحركات الاجتماعية في المدينة
ووسط هذا التفاعل المتواصل –عبر شبكات معقدة– تنشأ الحاجة الماسة إلى التمثيل السياسي والمشاركة في صناعة القرار السلطوي، والمطالبة بالحقوق المدنية.
هنا تنشأ مؤسسات وهيئات الدولة الحديثة، حيث الأحزاب السياسية، وقوى المجتمع المدني، والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وجماعات الضغط، والروابط المهنية والعلمية، وتلك التي تجمع أهالي الأطراف القاطنين للمدينة،
والتحالفات السياسية، والهيئات الثقافية، والجمعيات الخيرية، والائتلافات الشبابية، ومختلف الحركات الاجتماعية التي تتوزع على بعض مجالات الحياة، وعلاقات السوق المتدرجة، وكل العناصر التي تغذي التنافس، وقد تنحدر إلى صراع ضار، يزيد المدينة غربة وتوحشا.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا