فن وأدب - مقالاتمقالات

رواية أدبية عن ثورة.. متى نكتبها؟

حين بدأت في كتابة رواية “سقوط الصمت”، التي الجت الجوانب الإنسانية والجمالية والنفسية والاجتماعية، كان يسيطر عليّ أمرين، الأول: الخوف من أن أفقد طزاجة حدث شاركت فيه بقوة إن انتظرت سنوات لأرى اكتماله.

الثاني: يقيني من أن الثورة المضادة ستلتقط أنفاسها وتبدأ في تشويه الثورة، ثم تكتب تاريخها على هواها ومصالحها، وهو ما يحدث الآن بشكل جارح وبارح، وعلينا مهما كانت أدواتنا أن نكون مستعدين دومًا للرد على هذا، وقد كتبت كتابًا عن تجربتي المباشرة في الثورة عنوانه “عشت ما جرى.. شهادة على ثورة يناير”، وجاءت هذه الرواية لترسم الملامح الجمالية والاجتماعية والنفسية والإنسانية للحدث خارج ما يخصني وحدي، في مراوحة بين الآني والآتي.

هذا ما كان يشغلني في أثناء كتابتها وليس التنبؤ بسقوط الإخوان، لكن حين ظهرت الرواية قبل ثورة 30 يونيو بأسبوعين فقط، التقطها الناس على أنها نبوءة برحيل الإخوان، معولين على مقطع فنتازي فيها يؤول على هذا النحو.

حوار صحفي حول رواية سقوط الصمت

أتذكر في هذا المقام أنني أجبت عن سؤالين في حوار صحفي طويل لديهما علاقة قوية بالإجابة على السؤال المطروح في العنوان أعلاه. كان السؤال الأول: كتبت رواية “سقوط الصمت” عن ثورة يناير، فهل كنت تحتاج إلى وقت أطول للتأمل قبل أن تكتب عن حدث لم يكتمل؟

جاءت الإجابة: “خفت أن تضيع مني طزاجة الحدث ويفتر انفعالي به بمرور السنين وتسقط من ذاكرتي بعض مشاهده الإنسانية المشهودة، فأردت عبر رواية سقوط الصمت أن أجسد البطولة الجماعية والجوانب النفسية والجمالية التي لا يلتفت إليها المحللون السياسيون والمؤرخون، لا سيما أنني كنت في قلب الحدث وتفاعلت معه وتماهيت فيه تماهيًا كاملًا، ورغم أنني كتبت التجربة الذاتية فقط في كتابي “عشت ما جرى.. شهادة على ثورة يناير” فإنني أردت في الرواية أن أسجل بشكل جمالي ما عاشه الآخرون.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان السؤال الثاني: ذكرت أن الأدب وإن كان لا يصنع الثورة لكنه يؤدي دورًا في التغيير السياسي، فإلى أي مدى ساهم الأدب في نقد الواقع الاجتماعي وتحريك المياه الراكدة قبل ثورة يناير؟

جاءت الإجابة: أنا أعتقد أن الأدب برسمه ملامح عالم موازٍ أو متخيل، وانتصاره للحرية الفردية وفضحه للقبح الناجم عن الفساد والاستبداد، ساهم في تعميق الوعي، وهذا يشكل مقدمة ضرورية لأي رغبة في التغيير، ربما كان دور الأدب في ذلك غير مباشر لكنه عميق وأصيل.

اقرأ أيضاً: قراءة في كتاب “مدارات المجاز في الخطاب

كسر الحاجز بين الروي والتأريخ

سقوط الصمت

لكن هناك من يقول يجب أن تكتمل الثورة حتى نكتب عنها، ويستشهدون بأن نجيب محفوظ كتب عن ثورة 1919 في ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين، وأن تشارلز ديكنز كتب قصة مدينتين بعد الثورة الفرنسية بسبعين سنة، وينسى هؤلاء أن محفوظ وقت أن اندلعت ثورة 19 كان عمره ثماني سنوات، ولم يكن فن الرواية قد ترسخ في العالم العربي أصلًا، وديكنز لم يكن قد ولد، وأعتقد أن كليهما لو عاش الحدث ما ترك طزاجته تذهب، ثم يجلس يفتش في ذاكرته عن تفاصيل لينسج رواية، والرواية فن التفاصيل.

هذا الأمر يتشابه مع ما قيل عن ملحمة “الحرب والسلام” للأديب الروسي الكبير ليو تولستوي، التي توالى نشرها في السنوات المتراوحة بين 1865 1869، التي يدور زمنها أيام غزو جيش نابليون لروسيا القيصرية سنة 1812، فوقت وقوع الحرب لم يكن تولستوي قد ولد أصلًا.

ظني لو أن محفوظ أو ديكنز أو تولستوي وجد أمامه حدثًا كبيرًا مثل الثورة، وعاش تفاصيلها الإنسانية والنفسية والجمالية، لم يكن ليتركه يمر أمام عينيه مرور الكرام، بل كان سيعالجه فنيًا، أو بمعنى أدق يتخذ منه موضوعًا لرواية، والمهم:

كيف يكون التناول؟

وكيف لا يجور الحدث على “أدبية الأدب”؟

وكيف يكون الفن حاضرًا بغض النظر عن الشكل أو المعمار الروائي؟

الأدب يغيّر لكن على المدى البعيد

أتعجب من نقاد يقبلون أن يكتب روائي رواية ضخمة تدور كل أحداثها في قطار يمضي لبضع ساعات، أو داخل غرفة، أو تجري أحداثها في ليلة واحدة، ويبدون اعتراضًا على رواية عن حدث هائل بحجم الثورة!

المهم كيف نكتب عن الثورة عملًا فنيًا يبتعد عن السقوط في الأيديولوجيا أو الفكر السياسي المباشر؟ الناشر الأستاذ محمد رشاد صاحب الدار المصرية اللبنانية قال لي: “هذه الرواية ستكون جيدة أكثر لجيل لم يعش الأحداث”، فقلت له: “هذا ما أقصده”. وكم أسعدني أن سيدة قالت لي: “تشككت ابنتي الجامعية في الثورة من جراء ما تسمعه في بعض وسائل الإعلام التي تصورها أنها مؤامرة، فأعطيتها “سقوط الصمت” فقرأتها كي تستعيد وعيها، وقد حدث، بل إنها استعارت بعض جملها في كتاباتها التعبيرية عن الثورة، وبعض مقولاتها في الرد على حجج المشككين في الثورة.

اقرأ أيضاً: الرواية الطويلة .. لماذا نكتبها؟

اقرأ أيضاً: رواية الحمار الذهبي

اقرأ أيضاً: رواية فاوست

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري