مقالات

سقراط وتهمة إهانة الآلهة – الجزء الأول

قبل ألفي وأربعمائة سنة، حاول رجل اكتشاف معنى الحياة، كان نمط بحثه فريدًا وجذابًا ومضادًا للحدس لدرجة أن شهرته امتدت إلى جميع أنحاء دول البحر الأبيض المتوسط.

توافد الرجال –وخاصة الشباب– لسماعه يتحدث، واستلهم بعضهم عاداته الزهدية فراحوا يُقلدونه، أطالوا شعورهم، ومشوا بأقدامٍ عارية وعباءاتٍ ممزقة، لقد فتن المدينة فالتف حوله الجنود والبغايا والتجار والأرستقراطيين ينشدون الحكمة الغائبة..

ولا غرو، فلقد كان وجوده بمثابة لحظة فارقة في تاريخ الفلسفة، لحظةٌ تحول فيها الاهتمام البشري جذريًا من السعي إلى كشف أسرار الكون إلى استكناه حقيقة الإنسان ومغزى وجوده، أو كما قال «شيشرون» Cicero ببلاغة: “لقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الارض!”.

فيلسوف أثينا القديمة

كان هذا الرجل هو «سقراط» Socrates، فيلسوف أثينا القديمة والأب الحقيقي للفكر الغربي، رجلٌ من أصول متواضعة، وُلد سنة 469 قبل الميلاد تقريبًا لأب يعمل نقاشًا وأم قابلة (تمتهن توليد النساء)، مهنتان ليس لهما من الشرف الأثيني نصيب كبير، والأدهى من ذلك أنه وُلد متسمًا بالقبح وغرابة الأطوار في مدينة قدَّست الجمال الجسدي، وساد فيها الاعتقاد بأن الوجه الرائع يعكس نبل الروح الداخلي!

كان أفطس الأنف، أشعث الرأس، ذا بطنٍ ممتلئة، ويدين مشعرتين، يمشي حافيًا وحاسرًا بطريقة غريبة، مرتديًا كساءً غليظًا كعادة الفقراء، تدور عيناه كأنما يرنو إلى شيءٍ ما أبعد من تعلم مهنة والده، وأعمق من مجرد معايشة معجزة الازدهار الأثيني والتطلع إلى الثراء المُتاح في كنفها، تعلو صرخاته بشكل استفزازي كلما التقى سُكارى الملذات قائلا: “كم عدد الأشياء التي لا أحتاجها!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مع ذلك، كان –كما عرفه معاصروه– محاربًا قويًا وشُجاعًا، مُفعمًا بالنشاط والحيوية وحب الوطن، خاض صراعًا طويلاً ومُنهكًا تحت راية الديموقراطية الأثينية ضد اسبرطة Sparta خلال الحرب البيلوبونيسية Peloponnesian War، لكنه انتقد ما انطوت عليه من ممارسات أيديولوجية، متسائلاً: “ما جدوى الجدران والسفن الحربية والتماثيل المتلألئة إذا لم يكن الرجال الذين يبنونها سعداء؟ وما سبب عيش الحياة إن لم يكن هناك حبًا يغشاها؟”،

صحيح أنه اعترف بما للديموقراطية الأثينية من مزايا، إلا أنه وجَّه سهام نقده لعبثيتها، مؤكدًا أنه من السخف أن يتم اختيار الحكام بالقرعة، في حين لا يفكر أحدٌ قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن أو البنَّاء أو النافخ في الناي أو أي صانع على الإطلاق، مع أن هذا أقل ضررًا بالضرورة.

انفراده بنوع خاص من التقوى

وهو يعيب على الأثينيين حبهم للتقاضي، وتحاسدهم الصاخب، ومرارة أحقادهم ومنازعاتهم السياسية، وهو ما عبَّر عنه بقوله: “لهذه الأسباب تراني على الدوام أخشى أشد الخشية أن يحل بالدولة شرٌ تنوء به وتعجز عن تحمله”.

وعلى الرغم من أن أثينا كانت تحب فكرة حرية التعبير، حتى لقد أطلقت على إحدى سفنها الحربية اسم «باريسيا» Parrhesia (أي التحدث بصراحة) انطلاقًا من هذا المفهوم، إلا أن مواطنيها لم يقرروا إلى أي مدى يمكن أن تكون حرية التعبير مكافئة لحرية الإساءة!

من جهة أخرى، لم يرفض «سقراط» الدين الرسمي لأثينا صراحةً لأنه لم يجهر بمعتقداته الدينية، لكنه كان يذكر (الإله) بصيغة المفرد بدلاً من (الآلهة)، وقيل إنه كان مدفوعًا بنوع خاص من التقوى، معتمدًا على ما أسماه «ديمون» Daimonion أو «صوته الداخلي»،

وكان هذا «الشيطان» Demon يُمسك بتلابيبه من حين إلى آخر، فيقف الفيلسوف ساكنًا ومُحدقًا لساعات دون أن ينبس ببنت شفة، لذا كان الأثينيون ينظرون إليه نظرة ريبة وسخط؛ كانوا يرونه خطرًا على المجتمع، لأنه أصر على رفض التقاليد المرعية، وأراد أن يُخضع كل طقس من طقوس الدين لحكم العقل بعد تقصٍ وفحص، وأن يقيم قواعد الأخلاق على أساس ضمير الأفراد لا على أساس خير المجتمع أو أوامر الآلهة!

سعيه للمعرفة كان ضرورياً كالهواء الذي نتنفسه

ولما يقرب من نصف قرن سُمح لهذا الرجل بممارسة التفلسف دون عوائق في شوارع مسقط رأسه، حيث كان السعي وراء المعرفة بالنسبة له ضروريًا كالهواء الذي نتنفسه، قد لا نعرف عنه على وجه اليقين سوى مقولته المشهورة: “الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا»”،

ولكن للأسف لا يوجد دليلٌ حقيقي على نسبة هذه المقولة إليه، حيث تم توثيقها لأول مرة من قبل «شيشرون» بعد أكثر من ثلاثمائة عام من إعدام «سقراط» في أثينا سنة 399 قبل الميلاد!

لكن المؤكد –وفقًا لكُتاب سيرته الذاتية: «أفلاطون» Plato و«زينوفون» Xenophon– أنه لم يكن يبحث فقط عن معنى الحياة، ولكن عن مغزى وجدوى حياتنا، وطرح تساؤلات أساسية عن الوجود البشري: ما الذي يجعلنا سعداء؟ ما الذي يجعلنا صالحين؟ ما الفضيلة؟ ما الحب؟ ما الخوف؟ وكيف يجب أن نعيش حياتنا بشكل أفضل؟

وفي سعيه للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها كان «سقراط» مُدركًا لمدى قوة الحوار المباشر مع الآخرين، كانت الأجورا الأثينية The Athenian agora (سوق أثينا) بمثابة غرفة التدريس الخاصة به، حيث كان يقفز على المارة –كما يسجل «زينوفون»– لاستنطاقهم بما يود قوله.

فضحه للجهل

التقى ذات يومٍ شابًا في شوارع أثينا فسأله: “أين يمكنني العثور على الخبز؟” فدله الشاب بأدب عمن يبيعون الخُبز، ثم سأله مرة أخرى: “وأين يمكنني العثور على الخمر؟” فأخبره الشاب بأسلوبه المُهذب ذاته عن مكان بيع الخمر، لكنه فاجأه بسؤال ثالث: “وأين يمكن العثور على الخير والنُبل؟” فشعر الشاب بالحيرة وعدم القدرة على الإجابة، فقال الفيلسوف: “اتبعني إلى الشوارع وتعلم!”.

هكذا كان «سقراط» يفضح الجهل ويُسفه أحلام الغافلين دون أن يزعم الإتيان بجديد أو تعليم الناس ما لم يعرفوه، ولئن كان هذا مقبولا خلال العصر الذهبي لأثينا، حيث يمكن للسادة أن يتباهوا بدولة الرفاهية، إلا أن تحقق توقعاته بهزيمة أثينا وتدهور أحوالها كان نذيرًا بتحول المشهد، ومساءلة رؤيته وجاذبيته للشباب وتقواه الشخصية غير العادية، وكلماته التي تُخبرهم بما لم يرغبوا أصلا في سماعه، كمسحة شريرة تعصف بالاستقرار الهش للمجتمع!

ها هي الدولة المتألقة تُكابد تبعات الحروب الأهلية والخارجية، وينهار اقتصادها القوي، ويجوع سُكانها، ويعود رجالها إلى بيوتهم جثثًا لا حراك لها!

اقرأ أيضاً:

نبوة سقراط

سقراط في المدينة

سفسطائيو العرب والبحث عن سقراط

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية