سر صناديق الغرفة
صناديق الغرفة
نحب الخير ونحب أن نراه فى أفعال غيرنا. فأنا إذا رأيت من أحد زملائى مثلا فعل خير أحكم بأن وجودى معه خير لى، وأطمئن له. وإذا رأيت فى كلمات أو أفعال قائد أو مسؤول ما يدل على خير اطمأننت ؛فالمسؤول الفاضل دواء لآلام المجتمع، دواء أكثر فاعلية من مواطن عادى يتحلى بالفضيلة ، وللاثنين فاعلية لا يستقيم قيام المجتمع دون أيٍ منهما.
لكن كم مرة تم خداعنا لأننا نحب الخير؟!
كم مرة قلنا أن فلان صديق مناسب لنا و تبين فيما بعد أننا مخطؤون!
هل تتذكر الرئيس الأمريكى ذو الأصول الأفريقية المسلمة الذى لحن ” السلام عليكم” أثناء زيارته لجامعة القاهرة؟ هل تتذكر الترحيب والتفاؤل الذى انتشر بيننا حينها؟
هل تتذكر هذه المقولة من أستاذك الجامعى “انتم زى ولادنا” ؟!
هل تتذكر هذا الزعيم الذى يمسح على رأس طفل يتيم ؟!
هل تتذكر هذا العطوف على مرضى السرطان من الأطفال ؟!
ما هو رد فعل من يسمع كلاما أو يرى أفعالا دالة على الخير؟!
بفطرة حب الخير فينا : نطمئن ونحكم بأن فلان “شخص كويس ” و بناء على هذا الحكم نتخذ فلان صديقا أو زعيما نتبعه مطمئنين متفائلين. وإن كان هذا الشخص مسؤول فى دولة أخرى (رئيس وزرائها مثلا) فبعد حكمنا بأنه (شخص كويس) نتمنى أن يتمتع المسؤولون فى بلادنا والبلاد الأخرى بأخلاقه ونحسد شعب هذه الدولة ونتمنى لو أننا منهم أو نهاجر إليهم!
لكن فطرة حبنا للخير هذه خيبت آمالنا كثيرا!
فهل ندفن هذه الفطرة التى تدفعنا للحكم بأن هذا طيب وهذا شرير؟! أم نُبقى علي هذه الفطرة الساذجة!؟
حسنا يمكننا أن نبقى عليها، لكن مع تعديل ظريف- اضطررنا إليه لكثرة ما تلقينا من مقالب- فنقول أن طيب اليوم هو شرير الغد وأن شرير اليوم ربما يكون هو طيب الغد! المهم أن نعكس حكم فطرة حب الخير فينا لأنها خيبت آمالنا!
ولنتبين ما يجب أن نفعله بهذه الفطرة فلنتأمل معا هذا الموقف؛
افترض أن هناك غرفة وأخذنا الشخص (س) إليها معصوب العينين ووضعناه أمام صندوق مفتوح وقلنا له إنك فى مهمة لاستكشاف هذه الغرفة لكن وفق شروط؛
وأول ما عليك كشفه هو حقيقة الصندوق المفتوح أمامك ولا ترى ما بداخله. عليك أن تمد يدك لتأخذ شيئا من الصندوق وتقول لنا ما حقيقة هذا الصندوق؟!
يمد الشخص (س) يده وهو معصوب العينين؛ فإذا بالصندوق كرات -من اللمس تبين له أن أحجامها مختلفة- لكن عليه أن يأخذ واحدة فقط. ولما أخذ الشخص (س) معصوب العينين كرة من الصندوق طلبنا منه فتح الكرة عن طريق لف كل نصف منها عكس الآخر وفعلها فإذا بداخلها أوراق ورد ناعمة الملمس عديمة الرائحة. وهنا انتهت مرحلة الاستكشاف الأولى التى يقوم بها الشخص(س) معصوب العينين وحان دور سؤاله. سألناه ما حقيقة هذا الصندوق؟
فقال الشخص هو صندوق به كرات مختلفة الأحجام تحتوى على أوراق ورد ناعمة الملمس لا رائحة لها.
ما رأيك فى جواب هذا الشخص!؟
إنه جواب متسرع فعلا الصندوق به كرات مختلفة الحجم لكن كيف حكم بأن كل الكرات تحتوى على أوراق ورد ناعمة الملمس عديمة الرائحة!؟
و دون أن نعلق كمختبرين على جواب الشخص (س) الخاص بمرحلة الاستكشاف الأولى حتى لا ينتبه لمدى تسرعه فى الحكم ، ننتقل الآن به إلى مرحلة الاستكشاف الثانية.
الآن نخبر الشخص (س) معصوب العينين أن فى الغرفة عشرة صناديق ، ثم نسأله : ما سر هذه الصناديق؟!
فأجاب مترددا: ربما فيها كرات تحتوى على أوراق ورد ناعمة الملمس عديمة الرائحة!
الشخص جدير به أن يتردد فى إجابته لكن كان الأولى به أن يقول: لا أعلم. أليس كذلك؟! فهو لم يمد يده فى أى صندوق من صناديق الغرفة فمن أين أتى بظنه هذا بالصناديق.
و بدون توجيه تعليق إلى الشخص(س) معصوب العينين على إجابته الخاصة بمرحلة الاستكشاف الثانية ننتقل معه إلى المرحلة الثالثة.
قدناه وهو معصوب العينين أمام صندوق آخر وطلبنا منه أن يمد يده مرة واحدة داخل الصندوق ليكتشف حقيقته. فمد صاحبنا يده وأحس داخل الصندوق علبا صغيرة على شكل متوازى مستطيلات مخملية الملمس (بالتأكيد تفاجأ صاحبنا فى هذه اللحظة لأنه توقع أن يجد كرات داخل الصندوق!) و بعد أن بيننا له طريقة لفتح العلبة مخملية الملمس وهو معصوب العينين و تحسس ما بداخلها ،سألناه ماذا وجدت داخل العلبة مخملية الملمس فقال :خاتم.
ولما سألناه هل هو خاتم ذهبى؟
! قال: لا أعلم! عليكم أن تزيحوا عن عينى العصابة لأراه وأتفحصه جيدا
ولما سألناه ما حقيقة الصندوق الثانى؟
قال : ما أعلمه عنه أنه صندوق به عدد من العلبات مخملية الملمس لا أعلم عددها بالتحديد ولما فتحت علبة منهم اكتشفت بحاسة اللمس أن بها خاتم لا أعلم هل هو مصنوع من الذهب أم من شيء آخر.
يبدو أن صاحبنا تعلم الدرس لما تفاجأ أثناء استكشافه للصندوق الثانى!
ولما سألناه مرة أخرى ما سر صناديق الغرفة قال: أزيحو عن عينى العصابة وامنحونى فرصا لفتح الصناديق واكتشاف ما بها، وبعدها اسألونى عن الحقيقة!
انتهى الموقف!
والآن يمكننا تبين ما يجب أن نفعله بفطرة حبنا للخير ودورها فى إصدار حكمنا على أقوال وأفعال الآخرين خصوصا لو كان هذا القول أو الفعل هو أول عهدنا بالأشخاص أو نراه منقولا ومتداولا فى الإعلام.
يمكننا تشبيه فطرة حبنا للخير بحاسة لمس الشخص(س) لا يمكنه الاستغناء عنها فى الاستكشاف لكن لا يمكنه الاعتماد عليها وحدها فى إصدار حكم صحيح أو أقرب للصحة!
إذن فماذا نحتاج مع فطرة حبنا للخير لنحكم؟! نحتاج الصبر والمعرفة
و هنا يحضرنى قول شائع فى ثقافتنا؛
– تعرف فلان!؟
=آه
-عاشرته ؟
=لاء
تبقى ماتعرفوش.
وهذا ما نحتاجه فى تعاملنا مع الأشخاص الموجودين فى دائرة الأصحاب أو الزملاء ، نحتاج ألا نحكم على الشخص بمجرد كلمة أو موقف! ربما الكلمة الطيبة وفعل الخير بداية تقول لنا على أن القرب من هذا الشخص فيه اطمئنان وكمال لنا – إن رضى هذا الشخص بوجودنا فى حياته – لكن نحتاج لتكرار المعاملات والمواقف لنتبين هل فعلا وجود هذا الشخص فى حياتنا فيه خير لنا وله؟! أم لدينا من سعة النفس والصبر ما يجعلنا نتحمل بعض الأذى لأننا نرى فيه خير لكن يعيقه بعض الضعف فى نفسه؟! أو أننا لسنا بسعة النفس الكافية ولا هو بالشخص الذى نطمئن إليه ليكون صديقا مقربا فتبقى العلاقة ودية محترمة، إن لم يزددْ بها نصيبنا من الخير؛فلن تضر كثيرا، ولعلها فيما بعد أنفع! أو ربما نحن بنا من السوء ما يصعِّب عليه الاقتراب منا أصلا!
لكن ماذا عن حكمنا على أقوال وأفعال المسؤولين والزعماء المتداولة فى الإعلام؟!
بالتأكيد لا يمكن الاستغناء فيها عن فطرة حبنا للخير لكنها غير كافية أبدا.
و لو علمت أن العاطفة وحدها غير كافية لأستحسن فلان أو أتبعه أو أعتبره زعيما، لتجنبنا الكثير من المشكلات وخيبات الأمل.
وشيء آخر يمكننا الاعتماد عليه، هو المعرفة. نحاول أن نعرف مواقف أخرى لهذا المسؤول أو الزعيم ، أو معرفة موقفه فى قضية كحقوق الفلسطينيين فى أرضهم مثلا!
وأخيرا –سيدى- إن بعض أنياب الثعالب هى كلمات طيبة ولا أمكر وأخبث اليوم من كلام وأفعال ينتقيها الإعلام لهذا الزعيم، وذاك المسؤول ليردده على سمعك وبصرك فتتبعه بفطرة حبك للخير، فطرتك الطيبة العاجزة وحدها عن إصدار حكم صحيح أو حتى أقرب للصحة. كن كالشخص (س) وطالب برفع العُصابة عن عينيك وإعطائك فرصة المعرفة وبعدها قل حكمك منتبها إلى حظه من الصواب.
اقرأ أيضاً:
العنصرية الوردية .. كيف ننظر إلى الاختلاف فيما بيننا؟