مقالات

سر الخلطة: هل تفعل مثل الغرب حتى تتقدم مثل الغرب؟

تأثير ما هو حولي

أحاول وأنا هنا في الغربة ألا أتحول لشاشة إعلانات كبيرة للغرب ككثير من الناس الذين تملكت من أنفسهم فتنة الغرب والتغريب لدرجة غشيت معها أبصارهم أن ترى وتدرك بعض الحقائق الضرورية عن الحياة على الطراز الحديث. لا أريد هنا أن أتحول للناقد الساخط الذي يحاول جذب الانتباه لنفسه حينما يقول بأن كل شيء قبيح وسيء. ولكن لا يتوقع مني أحد أن أرسم في أذهانكم اليوم نفس الصورة الوردية التي يرسمها الكثيرون لكم في منشوراتهم ومقالاتهم عن الحياة في الغرب.

عبيد الغرب

وبما أن الكثيرين جدا قد وهبوا ما تبقى في أعمارهم لمدح الغرب مدحًا مطلقًا فإن من الطبيعي لي اليوم ألا أنحو نحوهم، ولن يتعب الباحث عن مداحي الغرب كثيرا لكي يصل لمبتغاه من أناشيد التغني بمعجزات الغرب ومقاعد المرحاض الإلكترونية لديهم، نداءات لا أرى من ورائها إلا تعميق لعقدة الخواجة والتعسف في جلد النفس أكثر مما ينبغي .

ربما نفهم وجهة النظر تلك أفضل لو تذكرنا كم الإحباط والغضب الذي كنا نشعر به ونحن أطفال في المدرسة حينما يكثر الأستاذ من مدح أو تعظيم الطالب الشاطر في الفصل ويقل اهتمامه بالأقل موهبة أو اجتهادا. شعور يجعلك تستنتج أنك مهما فعلت لن تستطيع أن ترضي المدرس ولن ترى في عينيه لمعان الفخر والفرحة التي تراها في عينيه حينما يتكلم عن الطلبة المجتهدين. فتقول في نفسك “ما الداعي من العمل أو المحاولة؟ لن أبهر أحدا مهما فعلت”.

 ولكن ليس هذا ما ستجده اليوم في هذا المقال. ما أقدمه هو نظرة عن التوازن الاجتماعي والنفسي أو الشخصي للإنسان الغربي في مجتمعه. هو مجرد توصيف لأسباب الالتزام والتحضر والتفاني في العمل في الغرب ، في مقابل الاستهتار والكسل والتهاون في العمل في الشرق. هذه الظاهرة التي هي في -ذهن الكثيرين- سبب تخلف بلادنا، فما أسهل أن نضع صورة من موقع عمل هنا وآخر هناك ثم نضع تعليق “شعب متخلف” أو “شوف البني آدميين” أو “لا تعليق… كوكب السويد”.

نبدأ العمل صباحا في العاشرة وننطلق نحو مكاتبنا كلٌ يعرف مهامه، قد أعد مسبقا جدول أعمال لليوم يرتب فيه المهمات التي عليه أن ينفذها. لا يوجد الكثير من التداخل أو التنافس أو الحقد بين الأفراد. كلنا نعرف أن الحائل الوحيد بينك وبين نجاحك هو موانعك الذاتية فقط. لا تقلق أبدا من عدم توفر الأدوات أو المعدات الضرورية لإنتاج العمل. لا يجب أن تكون المعدات مثالية كما نحلم نحن في بلادنا (الهوس بمثالية كل شيء كشرط لنجاح العمل)، لكن يكفي أن يكون لديك ما هو ضروري للإنتاج والعمل. وعليك توظيف عقلك وتفكيرك لإيجاد البدائل واستغلال الفرص والإمكانيات المتاحة أفضل استغلال لتحقيق أفضل ما هو ممكن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا يوجد فشل! يوجد محاولات نحو النجاح فقط؛ فالتجربة الفاشلة تعتبر خبرة ودرس يتعلمونه في منظورهم. مجتمع يدفع الفرد نحو استكشاف قدراته الذاتية، لا أحد يصرخ في وجهك إذا لم تحرز الهدف في المباراة أو تضرب الكرة بشكل صحيح، فقط يقولون لك حاول مرة أخرى. هو مجتمع تربى على رعاية الإنسان وتوفير المناخ الضروري لتحفيزه على المحاولة، وكما قلت فإن المانع الحقيقي الوحيد المتبقي بينك وبين الإنجاز هو موانعك الداخلية فقط، هي إذا فرصة جيدة لكي تصقل مهاراتك وتعالج عيوبك النفسية وتعمل على توسيع نطاق تحملك للمشقة والتعب من أجل الهدف.

كلمات جميلة تجعلنا نتمنى لو أننا ننتقل للعيش فورا في هذا المكان الساحر…

ثم يأتي المساء، الوجه الآخر للعملة، هنا سيتأفف البعض لأننا غير مستعدين في كثير من الأحيان أن نسمع ما يخالف تصوراتنا وأحلامنا. يعرف الكثيرون بعضا مما سأقوله الآن: الحياة الجتماعية للغرب ، مواصفاتها، وتفاصيلها التي هي ربما البناء الأساسي الذي عليه تتأسس جوانب العمل والتطور التكنولوجي الذي يحققه الغرب . ومن أجل ذلك لا يمكنني أن أتكلم عن هذا الجانب الذي سردته للتو وأغفل النظر عن الجانب الآخر. لأن الجانبين وثيقا العلاقة لا يكاد أحدهما يتغير إلا ويؤثر في الآخر إما سلبا أو إيجابا.

ساعات عملك هي وقت تستقطعه من حياتك الخاصة، وحياتك الخاصة هي ما يتبقى لك بعد أن تنهي عملك. إنه مثل الوجبة الأساسية والحلويات، لا يمكنك في أي مطعم فاخر وباهظ الثمن أن تتخيل أحدهما دون الأخرى. ولأن الغرب من أفخر نماذج الحياة، فلذلك يجب سبر غوار هذا الجانب أيضا ببعض التحقيق الذي ربما يشوبه بعض الأخطاء من جانبي، والتي ربما لن يغفرها محترفي الغربة ممن أمضوا أغلب أعمارهم في هذه البلاد في مقابل هذا الكاتب البسيط الذي لن يمضي إلا بعض الأشهر القليلة في الغربة.

لكن ما يشعرني بالاستياء دوما هو أن هؤلاء المتمرسين و”محترفي التغرب” لا يلقون بالا في كتاباتهم لوصف الوجه الآخر للعملة، في محاولة ربما هي منحازة كثيرا لتلميع وجه الغرب في أعين هؤلاء المساكين الذين يتوسدون أحلام الهجرة ويلتحفون بخواطر السفر والثراء والحياة المتطورة والمتجددة التي سيجدونها هناك. كم فتكت بنا تلك الأحلام وكم قوضت من قدرات أوطاننا على النهضة عندما قمنا بتغريب العقول بالجملة وتركنا الوطن يلتهمه الجهل والفقر فكانت النتيجة المنطقية، الخراب.

نعود الآن لنكمل من حيث توقفنا، الوجه الآخر للحياة في الغرب. لا ترى أحدهم في فترة الراحة في منتصف اليوم أو بعد العمل إلا ويحاول الاستمتاع قدر الإمكان. رأيت بعض الاستمتاعات المستحسنة عند أي عاقل كالرياضة والقراءة والمشي وركوب الدراجات، وغيرها من الأنشطة التي تحافظ على الصحة العامة للعقل والبدن. أما البعض الآخر فهو يعتبر معترك الخلاف الثقافي بيننا وبين الغرب .

يمكننا جميعا أن نتخيل الحالة النفسية التي تشعر بها بعد يوم عمل شاق ومرهق. فمتطلبات الحياة الأخرى تلح عليك، والباب مفتوح أمام كل الرغبات، شرب الخمر، مصادقة النساء في الحانات، مواقع الإنترنت الإباحية المتاحة في كل وقت وبسرعات تحميل عالية لكي تنفس عن طاقتك المكبوتة إذا لم تجد متنفسًا آخر. وأخيرا تدخين السجائر، الأمر الذي وإن كان يحدث في أماكن مخصصة إلا أنني لا يمكنني أن أتناسى أن السجائر هي أحد طرق تنفيس الكبت.

أتساءل دوما، ترى ما سبب هذا الكبت الذي يجعل هؤلاء يضطرون للتدخين؟ لقد ملأت صحفهم ومجلاتهم العلمية الكثير والكثير من المقالات حول الأضرار. ربما من المضحكات أن في المطار في منطقة السوق الحرة رأيت علب السجائر الكبيرة تباع هناك وقد كتب عليها بالكثير من اللغات وبخط كبير أن “السجائر تقتل”.

ربما أتفهم لو أن أفرادًا من مجتمعنا الذي يعاني تحت وطأة التخلف والضغط النفسي والاجتماعي اضطروا للتدخين، لكن حتى الآن أبحث عن السبب الذي يدفع هؤلاء الذين يعيشون على ما نتوهم أنه جنة السماء في الأرض للتدخين! أما عن الطعام، فإن كثيرًا من أطعمتهم قد أضيفت له الخمور كطعم مضاف، مثلما نضيف البهارات على الطعام عندنا.

إذا ما الذي ألاحظه من كل هذا، ألاحظ هنا محاولة لإخماد نار متقدة داخل النفس إما بالكحوليات والسجائر أو بتفريغ الكبت الجنسي. أنظر إلى هذا الوضع ثم أنظر لحالتي في وسط هذا المجتمع الجديد وأضطر للمقارنة. ما الذي يمنعني من الاستمرار في العمل والجد والاجتهاد؟ لماذا لا أكون مثلهم؟ ربما لدي بعض العيوب والمشاكل التي تمنعني من التقدم، وأنا لا أنكر ذلك، لكنهم أيضا ليسوا معصومين من الخطأ، ليسوا ملائكة لا تخطئ أبدا. ماهو ذلك المكون السحري الذي يدفعهم للعمل ثم العمل ثم العمل ثم المزيد والمزيد من العمل! إنهم لا يملون مثلما نمل نحن في ساعات العمل الرسمية، وربما في بعض الأحيان خارج ذلك الوقت أيضا.

أحاول هنا أن أجتهد لأجد الحل بطريقين مختلفين. الأول يمكنني تخيل قصة الفلاح والحمار والجزرة والعصا. ربما يعمل المجتمع هنا بهذه الديناميكية ولكن بصورة وإن كانت قاسية في باطنها إلا أنها مغلفه بقفاز حريري يجعلها أكثر رونقا وجمالا. فالإنسان يسعى لتلبية رغباته، والرغبات وتحقيقها تحتاج للمال، والمال يأتي من العمل، ولذلك فعندما ربط الإنسان المكونات الثلاثة العمل المال والرغبات، قرر أن يعمل ويلتزم.

لكن ما هو هذا الذي يدفعهم للعمل فوق حدود تحقيق رغباتهم، تراهم يسهرون لساعات طويلة يعملون في معاملهم ومصانعهم، ربما لو لم يفعل ذلك سيحصل على ما يكفيه، فيمكنه أن يوفر طاقته ومجهوده لشيء آخر، لكن لا فهو يفضل العمل على الرغم من ذلك. اختل في نظري معيار الفلاح والحمار الذي كنت وضعته في محاولة لشرح نموذج الحياة بشكل مبسط.

هنا أعدت تفكيري للمقارنة بين حياتهم وحياتي، ها أنا ذا أعاني لأجد الطعام الذي يناسبني. إن أصابني الصداع أو الضيق علي أن أتحمل، ربما أتناول بعض الأقراص المسكنة لا غير. لا يمكنني أن أشرب الكحوليات مثلهم. لا أستطيع الاقتراب من نسائهم لأن ذلك لا يجوز في خلفيتي الثقافية إلا بعد الزواج الشرعي، ولا أدخن السجائر مثل بعضهم.

لم أضع نفسي في مأزق الإنترنت من الأصل ولم أقدم على طلب خدمة الإنترنت في المنزل لكي أتجنب أي مدخل لهذا الأمر. لا يمكنني الولوج للشبكة الإلكترونية إلا من خلال مكتب العمل والذي يستحيل معه الدخول على مثل تلك الصفحات المشبوهة والتي قد تلوث سمعتي في مكان العمل بل وتعرضني للفصل والعقوبة.

ماذا يتبقى لي أنا بعد يوم شاق من العمل، أربعة حوائط من الأسمنت القاسي وتلفاز عليه قنوات سخيفة لأن القنوات التي تعرض الأفلام الشيقة باهظة الثمن وستعطلني عن العمل بالسهر عليها. بعض الطعام الذي لا يقارن بمآدب الطعام الفاخرة التي كنت أستمتع بها مع الرفقة والأحباب في الوطن، ولا أتفاخر عندما أقول أن طبق “الفول المدمس” مأدبة في نظري إذا توفرت معه الصحبة الجميلة والضحكة الصادقة.

أما الآن فأبيت وحيدا وآكل وحيدا وأمشي وحيدا، فالالتزام يفرض علي أن أحرم نفسي من الكثير مما يروحون به عن أنفسهم هنا في الغربة. لم أسرد هذه الأحداث لكي أستجلب الشفقة على حالي، فأنا لست هنا للمزاح أو الترفيه أو التسافل، بل أنا في مهمة شاقة وعلي أن أنهيها وأنا أعرف ما كنت سألاقيه هنا مسبقا وأعددت نفسي له تماما والحمد لله.

لكن السبب وراء هذه القصة الطويلة هو اعتقادي بأنني اكتشفت المعادلة هنا، هي معادلة الثور والساقية؛ فالثور لا يعمل فقط بما يقابل وجبته اليومية ونومه بالليل. ولكنه يستمر لساعات وساعات طويلة في تحريك الساقية، وربما لا يختلف كثيرا نصيبه اليومي من الطعام مهما زاد عمله. تماما مثل الناس هنا، يعملون لساعات طويلة مجهدة دون أن يزيد ذلك من راتبهم بشكل ملحوظ أو متكافئ عن معدل أجرهم الطبيعي. لكن هي علاقة المنتفع والمنفعة، فبقاء النظام الذي ينتفعون منه والذي يمتعون به أنفسهم ويرضون به شهواتهم معتمد على عملهم، وبقاء عملهم ومجهودهم معتمد على إرضاء شهواتهم.

هي معادلة قد تعلمها جيدا أصحاب الكلمة ومقرري النظام في هذه البلاد كما علمتها وتعلمتها هذه الشعوب في المدارس والكليات. فكانت النتيجة المنفعة المتبادلة في الوسائل والغايات المباشرة دون إشغال الذهن أو التفكير بأي من الغايات الكلية التي تخدمها المجهودات الجبارة التي تقوم بها تلك الشعوب. فطالما أنني أرضي شهواتي لا يهمني التفكير في ما وراء كواليس المسرح. فالمهم هو “أن يستمر العرض” كما يقول المثال في الغرب مهما كان الثمن.

عندها قلت لنفسي ببساطة لو أنني أعرف أنني حينما أعود لمنزلي لن أجد تلك الوحدة وتلك الحالة الاجتماعية المتعبة التي تؤرق نومي أحيانا كثيرة ربما كنت سأختلف عما أنا عليه. حياة مادية وشهوانية بالكامل، إن أردت أن آكل وجدت الكثير من الأطعمة ولو أرهقني ذهني بالتفكير وجدت المسكنات والمخدرات لتنسيني معاناتي ولو كنت محظوظا ربما أجد أنثى أشاركها الإنترنت المسكن المؤقت حتى تتبدل الأحوال.

هكذا هي الحياة، وهذه هي ساقية الغرب التي يتوق الجميع لأن تربط أعناقه بها ليجرها ويحركها. هذه الساقية ذات الأطراف الحديدية الحادة التي تدور على رقاب ملايين المستضعفين في العالم لا سيما فلسطين المحتلة التي قد انتهك حرمتها العدو الصهيويني الغاشم. ساقية تنهش وتقتل في أجساد المستضعفين بعد أن تطوع لتحريكها وتدويرها بعض المستضعفين أنفسهم. أو كما كانت تفعل روما الإمبريالية بقبائل البرابرة فتستعين بهم عليهم للتحكم بهم والسيطرة على أراضيهم ثم تنهب ثروات بلادهم. هو مسلسل يتكرر في التاريخ مئات المرات، ولكننا لا نتعظ للأسف.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.