زميلي الصامت والمحرمات الفكرية
زميلي الصامت والمحرمات الفكرية
هو قليل الكلام، وصمته يلفت الانتباه إليه وسط أصدقائه الصاخبين كثيري الكلام والضحك، أما هو فكلامه غير مألوف، كلام هادئ لا أعرف إن كان ينم عن حكمة أم عن غضب. ذهبت معه في يوم إلى أحد المكاتب لإنهاء بعض الأوراق، وأتيحت لي الفرصة للكلام معه قليلا.
قلت له: إنك صامت أغلب الوقت، هل صمتك هو عن غضب بداخلك أم عن تفكير يشغلك؟
قال لي: لا إنه عن غضب مكتوم في كثير من الأوقات.
سألته لماذا؟ قال لي إني لا أحب الصوت العالي وزملاؤنا في المكتب كثيرو الصخب والمزاح، لا أستطيع العمل أو التفكير في هذا المناخ أبدا. يصيبني الغضب من هذا الجو وأصمت كاظما غيظي.
قلت له أنا أيضا لا أحب الصخب الكثير وأنا أفكر، غير أنني أحب المزاح في أوقات الفراغ.
تناول كلامنا الكثير من المواضيع الفكرية ، عن الزواج تارة وعن العمل تارة أخرى، كانت لهم طباع عجيبة، على الرغم من التقدم والرخاء الذي يعيشون فيه، فإن سن الزواج عندهم متأخر بشدة بالنسبة لدولة وشعب لا يواجه أزمات اقتصادية ومادية كما في وطني. سألته عن السبب في ذلك، قال إن سن الزواج عندنا حوالي الثلاثين للرجال والثمانية والعشرين للنساء، وذلك لأن طباع وعادات الزواج عندنا غريبة، فالمرأة هي التي تسيطر على دخل الأسرة والرجل يسلم لها المرتب الشهري وهي تحدد له مصروفه الشهري. فهي وزير المالية في المنزل والمتحكم في المصروفات والواردات مما يجعل الرجال لا يقدمون على هذه الخطوة -أي الزواج- إلا بعد فترة من الترفيه والاستمتاع، ويقرر الزواج عندما يشعر أنه نال كفايته من ملذات الدنيا فيدخل لهذه المنظومة.
أظهرت تعجبي من هذا الكلام، وكلمته عن نظامنا الاجتماعي وعن تشارك المسؤولية بين الطرفين كل حسب قدرته وقيمومة الرجل في نظامنا الاجتماعي مع احترامه لحقوق المرأة وواجباته نحوها، وقد أبدى هو بدوره إعجابه بهذه الفكرة. أعلم أن الفكرة مجرد نظرية بل قد تكون مجرد خرافة في عقول البعض من بني وطني، لكني لا أسقط النظرية فقط لعدم اعتمادها في الحياة العملية، فالنظرية لا بد من دليل دامغ قاطع على فشلها لكي تسقط من عيني. أما آراء الأغلبية في أن هذه النظرية سيئة أو جيدة، فلا يتعدى عندي كونه ميلًا اجتماعيًا أو استحسانًا وارتياحًا اجتماعيًا لتوجه فكري معين ولا يزيد أو ينقص من قيمة النظرية في شيء. نعم لو اجتمع الدليل العلمي على صدق النظرية مع ميل المجتمع إليها لكان الأمر أجدر بالتوثيق والدراسة والتجربة، لكن يعود الأساس في احترام النظرية عندي من عدمه إلى صحتها العلمية كأساس ثابت، إن غاب غاب معه أي ثقة في هذه النظرية أو تلك حتى لو اعتنقها كل الناس.
ثم سألته: قل لي ما هي أحلامك؟
نظر إلى نظرة متعجبة: أحلامي؟
قلت له: نعم، أليس لديك أحلام؟!
تبسم وضحك قليلا ثم قال: لا، لا أظن.
قلت له: مستحيل، كل إنسان حتى البسيط المعدوم له حلم، وأنت شاب في مقتبل عمرك في أحد أفضل دول العالم وأكثرها تقدما، يجب أن يكون لديك حلم.
فكر قليلا ثم قال: حلمي أن أعمل وأتزوج وأكون عائلة.
سألته: ولماذا تكون عائلة: قال لكي يكبروا ويتعلموا ثم يعملوا.
قلت له: إن هذا حلمك بالنسبة لشخصك ومستقبلك، ولكن ما هو حلمك بالنسبة لوطنك ولشعبك.
استطرد في التفكير قليلا ثم قال: إن شعبنا يمتلك الكثير من القدرات والمميزات لكنه منغمس في العمل أكثر من اللازم، إن حلمي هو أن يتعلم شعبي كيف يستمتع قليلا بهذه القدرات التي لديه، فالعمل ليس كل شيء.
قلت له: ماذا ستعلم أولادك في المستقبل؟
هنا فعلا كان الجواب الذي أعجبني!
قال لي وبكل بساطة: سأقول لهم “يجب أن يكون لكم أحلام” أو كما قالها بالإنجليزية “Please, have a dream”.
لم تسعني الكلمات أن أعبر عما أشعر به من الحزن والأسى على شعب تعلم كيف يسيطر على المادة، لكنه نسى مع هذا الانجراف كيف يكون له أحلام، لكني قلت له: إن هذا هو مدخلك إلى عالم الفلسفة، ولو استمريت على هذا المنوال ممكن أن تكون فيلسوفا. تبسم لي متفاجئا وقال: فيلسوفا؟! ثم وجدنا أن الكلام قد أنسانا بعد الطريق، ووجدنا أنفسنا عند المكتب فأنهينا أعمالنا هناك وعدنا إلى أعمالنا.
ترك في هذا الحوار بالغ الأثر وشغلني بالتفكير في أمور وطني وشعبي الذي أشتاق إليه كثيرا. إن الإنسانية دائما تائهة بين طرفي النقيض، فالشعوب إما أن تكون حالمة متأملة متطلعة لكن دون عمل حقيقي يحول هذه الأحلام والتطلعات لواقع عملي نعيشه خطوة بخطوة. أو أن تكون كادحة مجتهدة ومنغمسة في العمل دون أن تعرف الوجهة أو الحلم الذي يسعون لتحقيقه بكل هذه المجهودات الجبارة. أو أن تكون شهوانية مترفة منغمسة في الملذات والنعم دون أن تعرف الاستخدام الصحيح لهذه الثروات لما فيه الخير للإنسانية، أو أن تكون معدمة فقيرة تعاني من الحرمان على الرغم من رغبتها في الحصول على الكفاف ومشاركة الجميع في نعم هذه الأرض الواسعة. كل مجتمع تجد فيه نوعًا من أنواع التطرف لأحد أو لبعض جوانب الحياة الإنسانية مع إقصاء وتهميش باقي الجوانب.
النداءات الغربية والعلمانية والليبرالية الفكرية في وطني تقابلها نداءات التطرف والقمع والتعصب الديني الكريه المنفر من القيم والأخلاق، فإما أن تكون منحلا أخلاقيا أو أن تكون متزمتا متشددا دينيا. النظريات الاقتصادية التي تبناها العالم في القرن الأخير هي أطراف النقيض، فإما نظريات إقطاعية ورأسمالية متشددة تفني الجموع الفقيرة البائسة من أجل رفاهة وثراء الأقلية الأرستقراطية الغنية، أو اشتراكية وماركسية مجحفة تفني الفرد بكل قدراته وإمكانياته وإبداعاته في الآلة الاجتماعية العملاقة وتحول الإنسان لمجرد رقم وترس في هذه المكنة، لا حركة له ولا قرار خارج قرار الآلة الاجتماعية العملاقة.
هكذا هو حالنا وثقافتنا وعقليتنا اليوم، لم يعد من السهل أبدا اختيار التوازن بين أطياف الفكر والعمل. فالتيارات الفكرية المنحرفة تلك تتعمد تشويه طريق الاتزان بكل ما لديها من قوة إعلامية لدرجة تجعلك حتى لو فهمت أن كل تلك التيارات الفكرية المتعصبة هي تيارات كاذبة، فإنك ستواجه الكثير من العناء للوصول بعد ذلك لطريق الاتزان السوي بين كل تلك التجاذبات والتناحرات. هذا في مجال الفكر والنظر، أما لو أردت أن تحول هذا الطريق المتزن لواقع عملي، فإنك ستواجه حربًا أكثر ضراوة وشراسة من كل تلك التيارات مجتمعة.
هذه الأزمة ليست أزمة الشرق فقط أو الغرب فقط، هذا الفساد الفكري هو أزمة عالمية والكل فيها بصراحة إلا القلة القليلة هم مستحقون للشفقة، فهم فعلا محرومون من مذاق العدل والاتزان في هذه الحياة، مجبورون على المسير ليالي وأياما طويلة في طلب هذه السرابات الكاذبة، التي تصورها لهم تلك النظريات الخاوية علميا، والتي تفرض عليهم فرضا وتلقن لهم تلقينا في المدارس والجامعات دون أي رؤية واضحة أو مراجعة علمية دقيقة لأساسيات هذا البناء الاجتماعي المفروض عليهم. واقع للأسف سيء جدا، وظلم وقمع للحريات والقدرات العقلية مسلط على رقاب الجميع لا فرق فيه بين أصفر وأسود، فكل من يفكر بالتغريد خارج السرب محكوم عليه بالهلاك والاضطهاد من هذه المنظومة المادية الأخطبوطية الاستعمارية. منظومة استعمرت العقول قبل أن تستعمر الدول والخرائط والمساحات الجغرافية.
ولذلك فإن الحاجة اليوم للتيارات الفكرية متزنة القوام ومقاومة للاستكبار الفكري والثقافي الذي طغى على العالم، لم يعد فقط مطلبا فئويا أو طائفيا أو دينيا يختص بفرقة أو مجموعة دون أخرى. إن هذا المطلب أصبح حتى بمقاييس المادية والبراجماتية مطلبًا عالميًا وعامًا وإنسانيًا؛ ذلك لأن الظلم في أصله وفي ذاته قبيح ومضر بكل الأشخاص والمجتماعات. الفرق هو في محاولة الظلم التعاقد مع بعض المجتمعات دون الأخرى بعقود اجتماعية مؤقتة بنظام المقاولة على مصالح الشعوب الأخرى. فيستعين في تارة بالشعب “ألف” على الشعب “باء” في مقابل ضمان رفاهة وثراء الشعب “ألف”، وما أن ينتهي دور الشعب “ألف” وتتم السيطرة على الشعب “باء” بالكامل، فهو إما أنه سيهمل الشعب “ألف” تماما ويتجه لمعادلة اجتماعية جديدة مع هدف جديد ولنسميه الشعب “دال” ويستعين عليه بالشعب “جيم”، أو ربما سيتحول عنده الحليف لعدو، فيستعين بشعب جديد على حليف الأمس الشعب “ألف”، فالظلم ليس له حبيب أو غالي كما يقول المثل الشعبي.
أما العدل والخير فهو عقد اجتماعي دائم مبني على تبادل الثقة والاحترام والمصالح الاجتماعية بين الأطراف كافة وفق اتزان عام ومعايير ثابتة للرفاهية والسعادة والإنسانية، لا يسمح فيها باستمتاع البعض دون الآخر أو بفقر البعض مع بقاء الآخرين فوق خط الثراء الفاحش. إنه عقد الإنسانية الحقيقي الذي يراعى فيه كل إنسان أخاه، وضعت له نظريات وقواعد عامة تضمن عند تنفيذها تحقق هذه الغاية بلا إجحاف ولا ظلم. ولذلك فإننا قلنا أن هذا المطلب، وهو النظام الاجتماعي المتزن غير المتطرف لم يعد مطلبا شخصيا أو فئويا بل هو مطلب إنساني عام، يجب أن تتكاتف جهود البشرية جمعاء في البحث عنه واستخراجه من مصادره وتحويله لواقع اجتماعي نعيشه. ولكن هذه العملية لإعادة الاستكشاف واستخراج هذا المنهج ليست سهلة، فهي لها شروط لكي تنجح، فالمطلوب للأشخاص الذين يقومون بهذه العملية التجرد من كل التعصبات الفكرية والطائفية و الفكرية التي تفتك بالعقلية الإنسانية في هذا الزمان، فهذه العصبيات والتشنجات الفكرية ليست إلا مرض سرطاني خطير يفتك بالعقل الإنساني ويشل حركته كلما أراد أن يقترب من المنهج المتزن ولو بخطوات صغيرة.
يمكننا أن نستنتج أن الأشخاص المستفيدين من الواقع الفكري والاجتماعي الممزق الذي نعيشه والأفكار البالية الفاسدة التي تنظم حياتنا الثقافية والاقتصادية، هم نفس الأشخاص الذين يتعمدون زرع تلك الفتن المذهبية و الفكرية والتعصبات والتطرف الفكري، لكي يضمنوا بقاء المنهج الفكري المتزن ضمن خط أحمر من المحظورات والأخطار البعيدة عن أي تطفل أو تجرؤ من شباب ومفكري هذا العصر والجيل الذي نعيشه. لذلك فإن الإرهاب الفكري هو أشد أنواع الإرهاب خطرا وسادية على الإنسانية، ذلك لأنه النوع الوحيد من الإرهاب الذي يمنعك من الوصول لترياق الشفاء من أمراض الظلم الاجتماعي التي نعاني منها. إنه بمثابة وضع الأطباء والكتب الطبية في وسط حلقة من النار وتحريم دراستها على كل الناس مع أن أمراضا فتاكة تهلك المجتمع الإنساني كل يوم. بينما كل المتاح للعلاج هو بعض الشعوذة والترانيم الماركسية أو الرأسمالية أوالليبرالية أو العلمانية أو نداءات التطرف والإرهاب والتي لا تشفي أي شيء من هذه الأمراض السرطانية المستفحلة بأجسادنا، بل هي تعتبر المصدر الحقيقي لهذه الأمراض في الأصل.
إن التغيير الحقيقي سيبدأ في ميدان الفكر، وذلك عن طريق الرجال المفكرين المتجردين والعازمين أشد العزم على استخراج المصل والعلاج لأمراضنا الاجتماعية ولو من فكوك السباع المتوحشة أو من أنياب الأفاعي السامة الضارية. لن يتوقف هؤلاء المفكرين عند أي حواجز افتراضية لا واقع علمي أو سبب منطقي لفرضها على الناس. لن يتوقف هؤلاء الباحثين عن الحق والحقيقة عند أي حد أو حائل يقف بينهم وبين علاج الإنسانية من هذه الحالة البائسة التي صرنا عليها. هذا هو المعترك الحقيقي للتغيير والمفتاح الحقيقي للعدل والحق والخير والجمال للإنسانية كلها. وعلينا أن نبادر لحمل لواء هذه المسؤولية قبل أن يوافينا الأجل وتضيع علينا الفرصة للحاق بركب هؤلاء الرواد الشجعان البواسل الذين يفتحون بكفاحهم ونضالهم حدودًا فكرية محرم على الإنسانية وطئها من خلال عدو غاصب مستكبر يستفيد من حالة الشلل الفكري والثقافي الذي نعاني منه جميعا.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.