مقالاتفن وأدب - مقالات

رواية 1984… كيف نصنع بالتفكير واقعاً مغايراً داخل المجتمع

 

رواية 1984 … صناعة ” التفكير الازدواجي “

عند فهم رواية 1984 للكاتب جورج أوريل نستنتج أنها رواية “ديستوبيا” أي مضادة لروايات “اليوتوبيا” التي تختص بالعالم الفاضل، المجتمع الذي كانت تدور داخله أحداث ” رواية 1984 ” عالم تحركه قوة شمولية تتحكم حتى في الزمان والمكان للمواطنين، وحقيقة الأمر ليس هذا محور حديثنا عن الرواية وإنما نحاول أن نتوصل لحقيقة دستور هذا المجتمع والذي تمثل في عبارات دقيقة صيغت في الرواية بشكل أدبي بسيط وهي:

الحرب هي السلام

الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وجميع هذه المفاهيم جعلها جورج أوريل تستند على طريقة ” التفكير الازدواجي ” والتي تعني الإيمان بالمفهوم ونقيضه في نفس الوقت ولغرض واحد وهو التزوير والتحكم بالتاريخ في الأساس.

 

المفاهيم وعلاقتها بفهم الواقع:

هذه هي الفكرة الرئيسية التي تتمحور حولها فكرة رواية 1984، حتى صدور رواية “451 فهرنهايت” للكاتب الأمريكي راي برادبري تتشابه في فكرتها الأساسية مع فكرة 1984 في نفس النمط الفكري للمجتمع على الرغم من التقدم التكنولوجي وذلك حتى تتناسب مع زماننا الحالي، أما التشابه الكبير بينهما فيتجسد أيضاً في مفهوم أن المساواة في مجتمع 451 فهرنهايت هي مساواة “حرق” كل ما هو مصدر للمعرفة مخالف للمعرفة التي يتلقاها المواطنون من الوزرات المختصة، بشكل أوضح وبالتدقيق حول عنوان الرواية نجد أن المقصود منها هي أن “451 فهرنهايت” هي درجة الحرارة المطلوبة للنار حتى تحرق كل الكتب أو كل مصادر المعرفة.

ومما سبق نستنتج أن الفئة الرئيسية في هذا المجتمع هم “رجال الإطفاء”، فأجهزة إشعالهم هي العمود الذي يستند عليه مجتمعهم، مهلاً! هل رجال الإطفاء يمتلكون أجهزة إشعال وليس خراطيم مياه لإطفاء الحرائق؟ والإجابة نعم!

فمجتمع “451 فهرنهايت” يعتمد على مفهوم أن “وحدة الدفاع المدني تشعل الحريق وليست للإطفاء” فهي السلاح ضد المتطرفين –وفقاً لمفاهيم هذا المجتمع – وهم المثقفون وممتلكو الكتب وكذلك كُتاب الكلمات بشكل عام، فهم السلاح دائماً الذي يقف بالمرصاد لكل من يعكر صفو هذا المجتمع بأية فكرة خارج القناعات المعتادة والرئيسية وهي أن “النار هي الوسيلة لتحقيق المساواة بين الجميع، وبصنع فكرة نمطية رئيسية يتبعها المواطنون جميعاً دون أية محاولة لصنع الاختلاف سنحمي مجتمعنا من الصراعات بين الأفكار والتي قد تتطور لحروب بالسلاح في المستقبل”

شاهد ..  451 فهرنهايت: كتاب لا تستطيع قراءته إلا بحرق صفحاته

ووجه التشابه بين رواية 1984 و رواية 451 فهرنهايت أن كليهما تدور أحداثه في مجتمع يتحكم في كل وسائل المعرفة بغرض السيطرة على العقول، والأهم من ذلك وهذه هي النقطة الأبرز هي “تحوير” مفاهيم أساسية ليخرج منها بمفاهيم جديدة تنطبع مع التكرار في عقول مواطنيهم حتى يعتادوا أنها الحقيقة واليقين ولا حياد عنها!

 

حروب رواية 1984 وسلام رواية 451 فهرنهايت:

فالنقطة الأبرز مما سبق تتضح في تصور المفاهيم بشكل قد جانبه الصواب، وهذا الخطأ قد أدى لسلوك غير صحيح منشأه رؤية غير صحيحة، ففي مجتمع رواية 451 فهرنهايت تصوروا أن العدالة هي بخلق مجتمع متساوي الأفكار لا يتميز بأي فكرة عن الأخرى، وكذلك تصوروا أن مفهوم الحرب هو الصراع الذي ينشأ فقط نتيجة للاختلاف في الأفكار بين المجتمع! وهنا قد يبرز تساؤل: أليس من الممكن أن تنشأ حرب بين هذا المجتمع النمطي وأي مجتمع آخر لأسباب قد تتعلق مثلاً برغبة هذا المجتمع في التوسع؟ أو حاجة ملحة لهذا المجتمع في تأمين مصادر مأكل ومشرب لرعاياه على حساب مجتمعات أخرى كما كانت تفعل أوروبا وأمريكا في القرن العشرين؟! فهل في هذه الحالة سيختلف مفهوم “الإمبريالية” من دولة لأخرى؟ وبنظرة أعمق وعلى افتراض أن جميع المجتمعات قد انصهرت وأصبحت مجتمعاً واحداً مؤمناً بهذه المفاهيم حيال “عدالة مجتمع 451 فهرنهايت” كما تحاول “العولمة” في عصرنا الحالي من غرس هذا المفهوم و”إجبار” العالم بأساليب قوية تتنوع بين الغزو الفكري والتهديد بالحرب من اتباعه، فمَن مصدر تعريف هذه المفاهيم لنصدق بها ونؤمن بها تماماً؟! إذن فقد وقعنا كمجتمعات في أزمة ثقة كما أن هذا ليس حماية من الحروب، فالحرب لها تصور مختلف وقد تنشأ بين المجتمعات المختلفة لأسباب تتنوع بين كل مجتمع وآخر.

أما مجتمع رواية 1984  ، فقد كان أكثر قسوة في التعامل مع المفاهيم متجاهلاً تماماً أن لكل إنسان رغبة ملحة في الوصول للكمال المعرفي، والذي يحاول الوصول إليه من خلال التفكير واتباع المنهج المعرفي السليم، وبمحاولة تحليل أفكار هذا المجتمع نجده يعتمد على الجمع بين المتناقضين في المفهوم بغرض ترسيخ المتناقض تماماً ضد المفهوم الآخر، وهذا في المجمل مخالف تماماً لبديهيات المنطق السليم، فمصطلح الحرب هي السلام يحتوي برأيي على معنى بأن حالة الحرب دائماً هي بغرض الحماية والسلام للمجتمعات، وأنني كمجتمع قد اضطر لهذه الحرب لحماية رعاياي من أخطار هذه المجتمعات الأخرى، وهذا المعنى نجده قد تشكل مثلاً في القرون الوسطى عندما تبنت أوروبا الحملات الصليبية أو “الحرب المقدسة” كما أسمتها كنيسة العصور الوسطى للسيطرة على الأماكن المقدسة وتأمين طرق الحج، أو كما صورت السينما الأمريكية الأعداء في فترة الحرب الباردة أو الحرب على الإرهاب كما تصورها الآن، وحرب العراق لنشر الديمقراطية والرخاء على هذا المجتمع وبالتالي للسلام، ومن قبلها كانت الحروب العالمية لنشر السلام، والهزيمة في جولات الحرب كانت انتصاراً لشعوبهم، وبالخروج عن النمط الموحد “العولمة” هي الحرب، والحرب العسكرية هي للسلام، ومع اختلاف هذه المفاهيم تنشأ أجيال وقد اختلفت لديهم التصورات والفهم الصحيح، فمن يوقف هذه الفوضى؟

 

الطريق الصحيح لمواجهة فوضى المفاهيم:

إن التمادي في الفهم الخاطئ للمفاهيم قد يزيد من المعاناة للبشرية، ولن يتوقف قطار الدمار إلا بنظرة الإنسان لنفسه وللعالم المحيط، فالحاجة الإنسانية ملحة لنا لاتباع أبسط قواعد التفكير المنطقي وإدراك العالم بالإدراك العقلي، وهو الذي يتعدى مجرد استعمال الإنسان لحواسه ليصل إلى المفهوم المجرد لما يدركه بالحواس “انتزاع المفاهيم”، ففي هذه الحالة سندرك أن العدالة ليست في المساواة، وأن الحرب مختلفة عن السلام، وأن الظلم هو الظلم والعدل هو العدل، وأن العبودية ليست هي الحرية، وأن القوة ليست في الجهل.

شاهد .. يوم في حياة إنسان – كيف تؤثر أفكارنا على سلوكنا

” إن عدم الدقة فى المفاهيم كثيراَ ما تقودنا إلى رفض لا أساس له، أو قبول لا إمعان فيه. ومن ثم نجد أنفسنا واقعين إما فى دائرة التعسف أو فى حبائل الدجل” د. محمد المخزنجى

والعلاج يتمثل في أن الطبيعة الإنسانية العاقلة تستلزم منا الخروج من نفق خلق المجتمعات المتناسخة في كل شيء، والابتعاد عن طابور المرددين لكل الأفكار دون تدقيق أو دراسة أو بحث فتكون النتيجة هذه الفوضى التي نعايشها يومياً، يقول د/ عبدالوهاب المسيري “نعيش مأساة قبول الأشياء على علاتها وعدم اكتراثنا بالبحث فيما وراء الأشياء أو ماهيتها، وخضوع النخب الثقافية لما أسميه الموضوعية المتلقية “وذلك بمعنى أن أي قضية أتت بتعريفها دون تساؤل “لماذا هي كذلك؟ “، وهذا ما نعانيه، هي في الظاهر موضوعية ولكن هي في حقيقتها متلقية، وذلك لأنها تفتقد أدوات المعرفة الصحيحة.

ببساطة، عملية انتزاع المفاهيم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم المنطق والذي من خلاله نصل إلى المفهوم بشكل كلي من خلال عمليتي (التصور والحكم)، أي امتلك تصوراً صحيحاً ثم احكم بالدليل.

هذا التصور بدوره (يحتاج إلى معرف) أي أتعرف على المعنى مجرداً في البداية دون أن أصدر حكماً عليه” ، ثم أحكم على القضية بعد أن أملك “الدليل”.

والمعرف إما أن يكون بالحد أي تعريفاً صريحاً وواضحاً “يحد الشيء” مثل الإنسان حيوان ناطق أي جسم متحرك بالإرادة تحكمه قوى عاقلة.

أو أن يكون التعريف بالرسم فيكون تعريفاً غير دقيق لا يعرف الشيء بذاتياته مثل الإنسان يخترع، فهنا لا نضع أيدينا على التعريف المميز للإنسان.

ولا داعي للقلق، فعلم المنطق ليس بالعملية المعقدة فبعضنا يستخدمه بشكل تلقائي دون أن ندرك بسؤال “ما معنى هذا… عند الحديث عن شيء غير معروف”.

 

لماذا تحدث مشكلة تضارب المفاهيم؟

إلا أننا قد نقع في مأزق الحكم غير الصحيح نتيجة لتغليب التعريف بالرسم، وهو ما تستخدمه المدارس التجريبية –التي تحكمها الحواس والتجربة فقط- وهو ما أدى إلى انتشار النسبية وفقاً لنظرية نسبية المادة ومنها نسبية كل الموجودات فغابت الحقيقة واقتصر مفهومها على ما يتحقق من المنفعة الذاتية، ومن صورها اختلاف المفاهيم ونسبيتها من مجتمع لآخر، ووفقاً لهذا التصور فالأخلاق نسبية والعدل نسبي والحرب هي حرب في مجتمع، وسلام في مجتمع آخر، وكذلك غاب الحكم الصحيح عن الحقيقة ودخل العالم في هذه الدوامة من المفاهيم غير الصحيحة وهذا ما يخالف الطبيعة العاقلة للإنسان من “الروح والجسد” .

 

نهاية حروب ونستون سميث

النتيجة الطبيعية لتخبط المجتمعات في المفاهيم والأفكار ظهور أفراد أمثال ونستون سميث في رواية 1984، أو منتاج في رواية “451 فهرنهايت” لمحاولة مساعدة مجتمعاتهم المشتـتة والمنهمكة في أعمالها المملة الرتيبة دون أي مظاهر للإشباع وانتشالها من ما هي فيه وإخراجها إلى عالم النور، هذا في عالم الرواية، لكننا في عالم الواقع نحتاج أمثالهم كمفكرين ونخب وصناع قرار نضع على كاهلهم مسئولية المشاركة في بناء أي مجتمع تطمح إليه النفس الإنسانية السوية؛ فإن كل إنسان لن يكون إنساناً إلا إذا وصل إلى درجة الإنسانية اللائقة به، وكل مجتمع لن يكون مجتمعاً إلا إذا وصل إلى الدرجة اللائقة به كمجتمع إنساني.

 

 

اقرأ أيضا :

الحق سينتصر رغم انتشار الباطل – وسنن التاريخ لا تدعو لليأس

شرنقة التدين وفراشة الإرهاب (1)

الحضارة الإسلامية.. بين البديل الأمثل والبديل الأوقع

 

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة