رواية “مدد”.. ما تخلخله السياسة يثبته التصوف
ينهل محمود الورواري من معين الصوفية العامر بالحدس والمحبة والزهد والولاية، ومن درايته بالواقع السياسي والاجتماعي المعيش، ومن تجريبه لمختلف فنون السرد، ينسج خيوط روايته الأخيرة الجميلة “مدد”، التي تبدو في مطلعها كأنها حكاية مكتوبة من وحي الثورة، أو للتفاعل مع زخمها الهادر.
لكن سرعان ما تفارق هذه المحطة، وتتخفف تدريجيًا من تأثير السياسي على الجمالي والفلسفي والاجتماعي، صانعة أمثولة افتراضية –ليست بجديدة– لمسؤول كبير قضى الثوار على أحلامه المفرطة ونزواته فصار مطاردًا، ولشريحة من الناس المتعبين الذين يهربون من قسوة الحياة باختلاق بهجة عابرة، يصنعها إدمان الحشيش تارة، والانشغال بالتفاصيل الدقيقة طورًا.
لكن الظروف تجعلهم جميعًا يتقلبون في مساحات رمادية بين اليأس والرجاء، والألم واللذة، والعذاب والمتعة، والنجاح والفشل، والماضي والمستقبل، والشجاعة والجبن، والإقدام والإحجام، والكرم والبخل، والإفراط والتفريط، لنصير أمام عيش معلق في الفراغ، فلا هو يحط على الأرض ويغرس فيها جذورًا عفية، ولا يطير إلى جوف السماء البعيد متحررًا في رحابها من كل القيود، التي يخلقها الفقر والمرض والجهل.
بداية رواية مدد
تلك المنطقة الوسطى بين كل شيء وكل حال تبدو القيمة المركزية الساكنة في ثنايا هذه الرواية، وهي مسألة ظهرت بجلاء في ذلك الاقتباس الذي تصدر الرواية من أقوال الأديب الروسي الشهير ديستوفسكي: “الجنون عدم قدرة الإنسان على أن يحسم أمره بين عالمين متناقضين”.
عبر راو عليم، يمسك بخيوط الحكاية ويحرك أبطالها كيفما شاء وينسب إليهم كل ما يريد من تصورات وأفكار، يسرد لنا الكاتب بلغة عذبة، مفعمة بالشاعرية والمفارقات والصور الفنية البازغة، مقطعًا وافرًا من مسيرة حياة وزير في نظام مبارك أعطاه المؤلف اسم “رياض كامل”، الذي لم يستوعب الصدمة التي خلقتها الثورة له فقرر الانتحار بالامتناع عن تناول دواء السكر والضغط.
لكن حب الحياة غلبه، فلم يجد من خيار سوى الهروب، ليس إلى خارج مصر، إنما إلى الجبانة حيث مقبرة والده، الذي كان يعامله بقسوة وهو على قيد الحياة جراء شكوكه في سلوك أمه، وهناك يتعرف على بشر مختلفين، عن أولئك الذين عايشهم في أثناء رحلة تصعيده ليكون من رجال السلطة.
تحول جوهري في مسار بطل رواية مدد
من هؤلاء “درديري” الهارب من ثأر في الصعيد، و”حسن” الذي استولى أعمامه على ثروته وأخته “حياة” التي تمتلك عربة لبيع الفول، و”الشيخ زوزو” الذي بدأ حياته طالبًا بالأزهر وحرمته الفاقة من مواصلة تعليمه فأصبح مقرئًا على المقابر، و”علي منولوج” طالب الحقوق الذي أجبرته أجهزة الأمن على ترك الكلية، ولم يجد سكنى سوى في المقبرة، ولا عملًا إلا كتابة الأشعار لمطرب يغني وراء راقصة.
بين هؤلاء يختفي الوزير، وهو الذي جاء من الريف مغبونًا بعد أن عيَّره الأطفال بأمه، ليجد حياة لم يعركها من قبل، تأخذه قليلًا من أوهامه، وتطلعه على جانب من حياة بسطاء الناس الذين كان غافلًا عنهم، وشارك في سحقهم وقهرهم ووضعهم على الهامش بدم بارد.
لكن التحول الجوهري في مسار “رياض كامل” يحدث حين يلتقي الشيخ “خيشة” الذي كان يأتي كل سنة إلى المقابر وينظم فيها حضرات الذكر مع مريديه، إذ نصحه بأن يخلي الدنيا وراء ظهره، ويمضي إلى الصحراء، حيث الصمت والجلال، فيمضي بهدوء في مدارج السالكين، لكن الرؤى التي تأتيه من “حسن” الذي استشهد في ثورة 30 يونيو ويوصيه برعاية زوجته وأخته و”درديري” الذي قتلته سيارة مسرعة، تجعله يعود من خلوته، لكن بروح ونفس وقيم وإدراك للذات والعالم، يختلف تمامًا عن ذلك الذي كان عليه في ميعة الصبا أو في صفوف السلطة.
الرؤية الصوفية وأثرها في التشكيل السردي
إن ما اختاره الورواري لبطله من مصير يختلف تمامًا عن ذلك الذي اختاره نجيب محفوظ لـ”عيسى الدباغ” بطل رواية “السمان والخريف”، الذي كان أيضًا ضحية لثورة يوليو 1952، لكنه اتفق مع محفوظ في جعل التصوف خلاصًا كما ذهب الأديب الكبير في روايته “رحلة ابن فطومة”، إذ جعل الورواري بطله يمر بمراحل ثلاث من الأحوال الصوفية أعطاها أسماء “القرب” و”الخلاص” و”الكشف”، وجعل منها عناوين لآخر ثلاثة فصول في روايته، مجتهدًا في إيجاد مقامات وأحوال صوفية تقترب من تلك التي نحتها زهاد التصوف وفلاسفته عبر سنين طويلة.
لكن يبقى السؤال: هل يطرح المؤلف تطهير النفس حلًا لبطله، الذي يبدو هنا نموذجًا لنظام مبارك كله، وبناء عليه حلًا عامًا لما تمر به مصر بعد الثورة؟ وهل ما جرى في الواقع يتطابق مع هذا أم أن أغلب المباركيين عادوا بتصوراتهم وأحوالهم القديمة ليهاجموا الثوار ويعيدوا الأمور إلى سابق عهدها؟ هذان سؤالان ليس مطلوبًا من الرواية أن تجيب عليهما، وربما أراد مؤلفها أن يطرح هو حلًا مثاليًا، أو يقصر هذا الحل على بطله من دون أن يحمله بأي مستويات عامة أو شاملة تنسحب على حالة المجتمع بأسره، وهذا حقه، لكن كنا ننتظر أن نرى تعميقًا للمجاهدات التي مر بها “رياض كامل” حتى تصفو نفسه، ويصير إنسانًا آخر، وهو ما أفرط المتصوفة في الحديث عنه في باب المقامات والأحوال ومدارج السالكين.
استخدام الضمائر في رواية مدد
الضمير الغالب على الرواية هو “المخاطب”، الذي إن كان قد أتاح للمؤلف أن يقيم حوارًا داخليًا عريضًا بين البطل ونفسه أو جعل بمكنة الكاتب أن يدين بطله ويجلده أحيانًا، فإنه بدا مجافيًا في بعض المواضع، لعلم الراوي بكل شيء وإلمامه بكافة التفاصيل وتحكمه في مصائر شخصيات الرواية من الابتداء إلى الانتهاء.
حرص الكاتب على أن يظل ضمير المخاطب مصاحبًا لبطله الأول طيلة صفحات الرواية، فالجملة الأولى منها تقول: “نفس الرؤية التي تطاردك منذ طفولتك تأتيك هذه المرة بشراسة أكثر”، فيما تبدأ العبارة الأخيرة فيها بالقول: “تضحية كبيرة أن تغادر النوراني فيك، وتنحاز إلى الطيني مرة أخرى، تعود إلى ذلك البين الذي كرهته طويلًا”.
على النقيض من ذلك كان المؤلف أكثر تحكمًا في رسم بقية الشخصيات عبر استخدام ضمير “الغائب”، وبهم طرح كثيرًا من تصوراته وقراءاته الفلسفية، من دون أن يخل بجماليات النص، إذ وظف تلك النزعة المعرفية في ثنايا العمل، عبر وصف وحوار متدفقين، ولغة فياضة، وشحنات إنسانية ظاهرة، خاصة أنه بدا متعاطفًا مع المهمشين في روايته، وهم مهمشون في الحياة نفسها، وأراد أن ينفخ من ذائقته ودرايته في أوصالهم المتراخية ونفوسهم المهيضة، وكان متحمسًا لهم إلى درجة أنه صنع بهم انقطاعًا إلى حد ما في مسار روايته، حين احتاج أن يرسم ملامحهم قبل أن يدخلهم في علاقة مع بطله الأول، وربما قيده “ضمير المخاطب” في أن يمزج هذه التفاعلات في السير الطوعي للأحداث.
مسرحية “سجن الرؤوس”
هذه النزعة القائمة بين السياسة والتصوف والفلسفة أيضًا تبدو إحدى السمات الأساسية لمختلف إبداعات الورواري. فها هو يبدو في مسرحيته “سجن الرؤوس” ذا بصيرة نافذة، وخيال وثاب، وألهمه الله القدرة على النبوءة، فرسم عبر نص محكم بديع، يضاف إلى مسرحيات ثلاث وروايتين وثلاث مجموعات قصصية وأربعة نصوص سينمائية، ملامح المشهد العبثي المؤلم الذي نغرق الآن في تفاصيله المروعة.
بين “نعم” و”لا”
فها هو يتوقع انقسام المصريين بين “نعم” و”لا”، مثلما جرى إبان الاستفتاء على تعديلات الدستور في مارس 2011 ثم على الدستور المخطوف في ديسمبر الجاري. وهنا يأتي النص:
“حسنة: معقول هم أكثر منا.
أحمد: نعم أكثر.. بل راحوا وجمعوا أنفسهم.. حتى الذي لم يدخل المسجد طيلة عمره، سيدخله اليوم ليقول نعم.
حافظ: هل تعلمون أن مصائب التاريخ من أقدم القدم كلها جاءت نتيجة هذه النعم”.
حوار بين حسنة وسند
هذا المشهد جزء من نص حواري عامر بالجمال والمعنى، يدور في مجمله حول طقس ديني معتاد، وهو تقديم النذور، التي انحدرت من الأموال إلى العيال، إذ قدم الناس فلذات أكبادهم قرابين، بعد أن وضعوا أطواقًا حديدية في أعناقهم، فنمت أجسادهم وجمدت رؤوسهم عند حالها، ومعها ضمرت قدرتهم على الفهم والربط والإدراك والإبداع، فكانت لهم أجسام البغال وأفهام العصافير، وبذا صارت عقولهم سجينة باسم تدين مغلوط.
مع تقدم النص يمارس رجال الدين السياسة، ويترجل المعارضون الحقيقيون في انكسار وانحسار، لتأتي صرخة الاحتجاج من النساء، اللاتي يرفضن الولادة، ويحتفظن بأجنتهن في أحشائهن خوفًا عليهم من أن تسجن رؤوسهم في أطواق الحديد فيسدرون في بلاهة وعته وخمول. وحين يطلب منهن الرجال الإنجاب يقلن: “سوف نلد أطفالنا في زمن أفضل، وسوف نحتفظ بهم في بطوننا حتى لو أصبحوا شيوخًا”.
تتضح الصورة أكثر في حوار بين “حسنة” إحدى بطلات المسرحية و”سند” أحد أبطالها:
“حسنة: أخاف من الغدر، لا أدري ماذا تخبئ لنا الأيام؟
سند: كل خير يا حسنة. ما دمت معي ستخبئ لنا الأيام سعادة، وأطفالًا يلعبون أمام أعيننا.
حسنة: والله لا أخاف إلا على هؤلاء الأطفال الذين سيجيئون. أخاف من الطوق الذي سيوضع فوق الرؤوس”.
الشاب الثائر وصرخة حسنة
البطل الأول للمسرحية “أحمد” شاب ثائر لديه قدرة على توقع ما سيأتي، وهو ما تقول بشأنه “حسنة”: “والله كل يوم يتأكد لنا صدق كلامه. كل ما قاله سابقًا تحقق ويتحقق”. في البداية يقاوم أحمد بالكلمات، فيبدع أشعارًا يغنيها “علي المغنواتي” بصوت غارق في الشجن، لكن حين تضغط السلطة الجديدة الغازية الغاشمة يجد نفسه مضطرًا إلى التفكير في اتجاه آخر. فحين يطالبه “القاضي” بألا ينجرف إلى العنف، ويدعوه “سند” إلى الهدوء، يرد أحمد: “من أين سيأتي الهدوء، وأنتم تقلعون آخر ما يذكرنا بأيامنا السابقة؟ كيف أهدأ وأنا أرى سكين الجزار قد غرزت في عنق الضحية وبدأ الذبح؟ وماذا أنتظر؟ وأنتظر من؟ الجميع مخدر، مقلوع من جذوره، ناقم على الوضع وغير قادر على تغييره، مهزوم قبل أن يدخل المعركة”.
ربما يأتي الرد على الشعور الواهن في موضع آخر من المسرحية على لسان فتاة تسمى “ظاظة”، إذ تقول لأحمد حتى تقويه في وجه سياسة الترهيب والخوف: “هناك ما يستحق، هناك الإحساس، الذي يشعرك بكيانك، إحساس الصمود والتحمل، إحساس الدفاع عما تؤمن به، وهناك أيضًا من يستحق”.
يقاوم القاضي على طريقته، فحين يقول له كبير الحراس: “قلت لك تعال وتولى أنت الحكم بين الناس لكنك رفضت”، يرد عليه: “رفضت لأنني لا أقبل أن أحكم بغير قانوننا. هذا القانون الذي يلائم بلدتي، ويلائم عادات ومعتقدات أهلها”.
تنتهي الرواية بصرخة قوية من “حسنة”: “أن تسحق رؤوس أطفالنا في الطوق حرام/ أن نقتلع من إنسانيتنا حرام/ أن نهان ونصمت حرام.. أن نكون خرافًا في زمن كثر فيه الجزارون حرام/ الطوق الذي يوضع في عقولنا حرام/ الطوق الذي يوضع في أرزاقنا لنجوع حرام/ أي طوق في الحياة حرام”.
مقالات ذات صلة:
رواية 1984 .. كيف نصنع بالتفكير واقعاً مغايراً داخل المجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا