فن وأدب - مقالاتمقالات

رواية “الأفندي” لمحمد ناجي، فرد يسقط وسط جماعة تعاني

لم يتخل الروائي الكبير الراحل محمد ناجي في روايته “الأفندي” العريقة عن سمته في البناء وطريقته في السرد، ولا عن عالمه المشحون بالمعاني، المفتوح على مفردات الكون كله، من إنس وجان، ومادة وروح، وأسطورة وواقع معيش.

لكنه تخلى عن التردد والتقييد الذاتي الذي فرضه على طاقته الإبداعية القوية في بعض أعماله السابقة، وأطلق العنان لقلمه السيال وخياله الجموح واحتفائه الشديد بالمعاني والقيم الإيجابية والمثل العليا، ليضع بهذه الرواية علامة مميزة في مشروعه الأدبي الحقيقي الذي كان يكتمل على مهل وبعيدًا عن الضجيج والمظهرية.

لكن الانطلاق أو التخفف من القيود في هذه الرواية كان في بعض المواضع على حساب متانة السرد، التي ميزت عمل ناجي الأول “خافية قمر” الذي ولد من رحم شاعريته، فجاءت جمله مقتصدة، وعباراته خالية من أي حشو أو تزيد أو تكرار، وأدت كل منها وظيفة في بناء الحكاية وتقدمها إلى الأمام في اتجاه النهاية.

عناصر التميز في رواية الأفندي

إلا أن هذا لا يمنع أبدًا من أن “الأفندي” رواية حافلة بالعديد من عناصر التميز، بدءًا بالجاذبية وانتهاء بالروح الملحمية النسبية، مرورًا بمتانة المعمار الروائي وعذوبة اللغة وتدفق السرد، وعدم إهمال التفاصيل الضرورية للإيضاح والبناء والاستدلال.

إضافة إلى تعدد الشخصيات واختلاف طبائعها وأدوارها وتفاعلها الخلاق في المواقف والمواضع، واتسامها بالحيوية التي تجعلها نابضة بالحياة، منتمية إلى هذا العالم، تتطور باستمرار مع تقدم الزمن، فلا ترتكن إلى النمطية الرتيبة ولا تدعي طهرًا كاملًا وإيجابية تامة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حكاية حبيب الله

الرواية تسرد حكاية لشاب مصري فقير، أبوه يعمل حلاقًا وأمه ربة منزل، يعيش في حي شعبي بوسط القاهرة، كان الأب يعشق الثرثرة مع زبائنه، ويدعي امتلاكه معلومات غزيرة وقدرة على قراءة الأحداث السياسية، حتى أطلق عليه الناس “سي كلام”، والأم اعتبرت أن بإنجابها لـ”حبيب الله” قد انقضت مهمتها في الحياة حسبما كان يحددها زوجها.

أما العم فلم يكن له من شاغل في الحياة سوى الحديث عن الجد “حمروش”، الذي لم تقطع الرواية بما إذا كان حقيقة أم خيال، والجد وقع في هوى جنية، فأورثه العشق خبلًا وجنونًا، فترك العالم وسار يبحث عنها في كل مكان دون جدوى.

ماتت الأم وتداعت صحة الأب، وقل رزقه مع ظهور قصات الشعر الجديدة التي صاحبت الانفتاح، فراح “حبيب الله” الذي كان قد التحق بكلية العلوم لدراسة الطبيعة والفلك، يبحث عن مصدر رزق، فالتقى نازك التي ألحقته معها في تجارة العملة.

تطورت العلاقة بينهما إلى حب من جانبها وتلاعب من جانبه، كان ثمرته بنت اسمها نور، أخفتها أمها عن أبيها وسجلتها باسم أب غيره، واحتفظت بسرها حتى توفيت فجأة.

حكاية الفتاة العربية

لكن الأحداث تطورت في اتجاه سمح له باكتشاف السر، ليعلم أن كل ظنونه حول نازك، وشكه في أنها كانت تمنح جسدها لرجال كثيرين، كانت مجرد هواجس خائبة، لا أساس لها.

وعلى هامش هذه القصة المركزية تتوالد حكايات فرعية عن فتاة عربية، شبه أميرة، تدعى موزة، تركت بلادها وجاءت إلى القاهرة هربًا من قصة حب فاشلة، وكانت تقرض الشعر، فالتف حولها شعراء وكتاب ونقاد، استفادوا منها.

بحثت فيهم ومعهم عما يسرّي عنها همومها، خاصة “حبيب الله” الذي كانت تراه شخصًا مختلفًا، ونازك التي كانت تقرأ له الكف وفنجان القهوة وتزينها، لكن موزة لم تلبث في النهاية أن حزمت أمتعتها، وودعت الجميع وهي تؤكد لهم أنها لا ترغب في رؤيتهم حتى آخر العمر.

الحكايات الفرعية في رواية الأفندي

رواية الأفندي

هناك حكاية وداد قروي وهي مذيعة سابقة، تبكي مجدها وشهرتها الضائعة وتبحث عن استعادتهما بأي ثمن، فتتعلق بعرض غير جاد للقيام بدور في فيلم سينمائي، وتتعلق بحبيب الله بحثًا عن حب افتقدته.

توجد حكاية فايز ناصف وهو شاعر توقف عن الإبداع، وتفرغ للنقد الانطباعي والتعليقات الشفاهية، يعمل بالصحافة، لكنه لم يتحقق فيها إلى الدرجة التي ترضيه، ويشعر دوما أن عمره يضيع بلا جدوى.

هناك حكاية الحاج حسين، صاحب محل في خان الخليلي، والذي احتضن حبيب الله بعد وفاة والده، ونقله من الإتجار بالعملة إلى السياحة، فوضعه على أول طريق الثراء على مصراعيه.

لكن الحكايات الفرعية تتقاطع مع الحكاية المركزية، فتضيف إليها، وتبني عليها، وتضيف لها ثراء ملحوظًا، وتصبح في النهاية مسارات جانبية لبطل الرواية، الذي يلتقي أغلب الشخصيات، ويعرف عنها أشياء كثيرة.

لا سيما أنه هو نفسه “الراوي” الذي يرسم ملامح الشخصيات ويحدد تاريخها، ويصف الأماكن ويمنحها خصوصيتها، ويطلق الحكمة ويعطيها حضورها الأخاذ في مواضع عدة من الرواية.

بنية السرد في رواية الأفندي

إذا تركنا الحكاية وبطلها أو راويها “العليم”، وذهبنا إلى بنية الرواية وبيئتها، فنجد أنها حافلة بمواطن التشكيل الجمالي للغة في سطورها المتتابعة وجملها وعباراتها المتتالية، لا سيما أن ناجي يحرص على المزاوجة بين لغة مشحونة بالبلاغة وبين أخرى تعتمد على السهل الممتنع والبساطة الآسرة.

هي مسألة ملتصقة بطريقته في الكتابة منذ عمله الأول، لا سيما أنه دخل إلى عالم الرواية من باب الشعر، حيث كانت الجماعة الأدبية تعرفه شاعرًا، حتى فاجأها بروايته الأولى عام 1994 وهو في السابعة والأربعين من عمره.

رغم ما ذكرته سابقًا من حالات لترهل السرد، فقد حافظ ناجي في بعض المواقع على استخدام الكلمات الدالة، التي يغني حضورها عن عبارات عديدة أو صفحات عدة، مثل كلمة “حصل” التي تأتي قبل المضاجعة،

أو كلمة “اشتغلتها” التي تسد مكان حديث مسهب عن التلاعب والمخاتلة والخداع، وكلمة “أنبض” التي تحل محل تناول مطول عن يقظة الشهوة الجنسية والتأهب للفراش.

اقرأ أيضاً: رواية الجوع

اقرأ أيضاً: “في كل أسبوع يوم جمعة”.. رواية عن أوهام العالم الافتراضي

اقرأ أيضاً: اللص الجميل

تداخل الخيال الروائي بالواقع المعيش

يطوع محمد ناجي الخيال لخدمة الواقع، لينطلق منه إلى التخيل، في لعبة دائرية تقوم على تبادل للمنافع والمواقع، بين ما يجري في عالم الشهادة وما نعلمه أو نخمنه أو نتوقعه عن عالم الغيب.

هنا تبرز الأشياء لتعطي معاني رمزية، مثل الأحجار الكريمة التي يوظفها لخدمة القضايا والمواقف التي تنطوي عليها الرواية، أو “نموذج الكرة الأرضية” الذي يقتنيه عم البطل، ليتابعها وهي تدور ويحكي حكاية الجد حمروش الأسطورية.

هناك أيضا حكاية “ستنا” التي تزينت لحبيبها فخدعها وصارت أمثولة أو “ولي” له مريدون ويقام له مولد.

توجد كذلك مسألة الكارنيهات والأختام التي يمتلكها الموظفون، ويراها الحاج حسين: “تعاويذ العصر السحرية”، ويقول لحبيب الله، وهو يشير إلى شهادة الميلاد المزورة التي استخرجها لنور:

“بدون هذا التوقيع وهذا الختم لا وجود للإنسان في الحياة، ربك يخلق كما يشاء، وهم الذين يثبتون وجودك من عدمك في هذه الدنيا.

أختامهم حجج، وتوقيعاتهم قضاء نافذ، وكل شيء عن أرزاقنا وأعمارنا مكتوب عندهم”.

الشخصيات في رواية الأفندي

هناك راديو (مذياع) سي كلام الذي مات وتركه، فتحول في الرواية إلى رمز يدل على عالم حبيب الله القديم الذي افتقده، وكان كلما يحن إليه يعود إلى هذا المذياع ليتسمع وشوشاته البعيدة.

أما الواقع فيسيطر عليه الخيال، وتتحول الشخصيات إلى رموز، فيصبح حبيب الله رمزًا لـ”الواطي” كما تردد نازك دومًا، وتصبح نازك رمزًا للتضحية.

هذه الرموز وتلك المعاني الكبرى المرتبطة بمبادئ وقيم راسخة في حياة الإنسانية تسيطر على عقل محمد ناجي وقلمه، فتجعل شخصيات روايته لا تدور في فراغ، إنما تحال دومًا إلى ما تعارف عليه الناس في تقسيم البشر وتصنيفهم.

تعبر عنه الرواية ذاتها على لسان حمروش، حين كان يطوف كل ليلة حول السور في انتظار الفجر ويقول: “البحر واحد، والسمك ألوان”. وعلى هامش كل هذا تصبح سيدة الغناء العربي أم كلثوم رمزًا عن مرحلة الأحلام العريضة و”الزمن الجميل”، وأحمد عدوية عن مرحلة التداعي.

إيقاع اللغة مع طبيعة الأحداث في الرواية

رواية الأفندي

المدهش في هذه الرواية هو تناغم إيقاع اللغة مع طبيعة الأحداث والمواقف، وتطابق المعمار مع الوقائع، ففي الجزء الأول من الرواية الذي يغطي عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين جاءت اللغة غارقة في الشاعرية، متوائمة مع “الطرب السياسي” حسب تعبير المؤلف، الذي ارتبط بالأحلام الكبرى، وبوطن ممتد من “المحيط الهادر إلى الخليج الثائر”.

لما وصلت الحكاية إلى زمن الانفتاح تسارع إيقاع اللغة وخفت بلاغتها وحفلت بألفاظ وتراكيب عامية دارجة تتماشى مع طبيعة المرحلة.

حين تحل المواضع الأسطورية في الرواية تكتسي اللغة بسجع يشبه المتعارف عليه في الحكايات العربية الشهيرة وفي مقدمتها “ألف ليلة وليلة”، أما حين يأتي الواقع تعود اللغة إلى الناس، فتنتمي إلى ألسنتهم، فصحى في الغالب، وعامية مصطفاة في مواقع نادرة، ثم يستقيم الحوار بين أخذ ورد متبع في حياتنا التي تجري.

المضمون الكامن في رواية الأفندي

من حيث المضمون المرتبط بالسياق الاجتماعي/ السياسي والعلاقات الزمانية/ المكانية نجد أن الرواية تنفتح على تأويلات مختلفة، وتبدو طيعة لقراءات ومداخل عدة.

في مطلعها القراءة السياسية عطفًا على لحظة البداية المرتبطة بميلاد بطلها “حبيب الله الأفندي” وقت حريق القاهرة في يناير من عام 1952، ولحظة النهاية المتوازية مع سقوط بغداد في التاسع من إبريل عام 2003، وما تخللهما من أحداث ذكرت تباعًا في ثنايا السرد، من قبيل الحروب التي خاضتها مصر، وبناء السد العالي، وسياسة الانفتاح، والحادث الإرهابي الذي وقع بمدينة الأقصر عام 1997.

هذه القراءة تجعل من الرواية شهادة بليغة لما جرى لمصر على مدار نصف قرن كامل، عبر تتبع المحطات التي مر بها بطل الرواية، بدءًا بعلاقته بأبيه الذي كان يعشق عبد الناصر ولا يرتاح للسادات.

ثم استفادته من “السداح مداح” الذي صاحب الانفتاح في الإتجار بالعملة، ثم العمل بالسياحة فالسمسرة وفتح شركة صرافة وأخيرًا الإنتاج السينمائي، وكل هذا جعله يحصد الملايين في سنوات قصيرة.

الأبعاد الفكرية في رواية الأفندي

يمكن قراءة “الأفندي” بمدخل فلسفي، لأنها حافلة بأطر كلية أو نظرة محددة إلى الكون والحياة، تقوم على (الله/ البشر/ العالم/ الأسطورة/ الموت)، فكل هذا حاضر في ثنايا الرواية، تلخصه عبارات عديدة مثل هذه التي جاءت على لسان نازك وتقول فيها: “كل ما يخطر على بالنا لا بد أن يكون، هل هناك شيء أكبر من قدرته سبحانه؟”.

وتلك التي أتت على لسان فايز ويقول فيها: “ماذا يبقى في النهاية غير هذا الشعاع التائه الحزين؟ الفكرة”، والتي تناقضها عبارة يقولها حبيب الله في موضع سابق وهي: “لا أفهم معنى أن تهب حياتك لفكرة، تظل تطاردها وتطاردك حتى يضيع عمرك، أنا أتشبث بنفسي، أتمسك بتلك الفرصة النادرة، الجسد”.

يبلغ الأمر ذروته مع التفلسف حول ما إذا كان الإنسان مجرد “حيوان له ذاكرة”، والتي طرحها الراوي حين زار الحاج حسين بعد أن أصيب بالألزهايمر فوجده خارجًا عن العالم، وكذلك حين يتحدث عن أن “المادة لا تفنى، وأننا لا يمكن أن نضيع سدى، وسنظل مندمجين في الكون بشكل أو بآخر”، وحين يقول أيضا: “أظن أن في داخل كل إنسان كائنًا آخر متأملًا، يستقبل الأمور بلا حزن وبلا ابتهاج”.

البعد الاجتماعي في رواية الأفندي

كما يمكن قراءة الرواية قراءة اجتماعية تنبني في أولها على صورة المرأة في ثنايا النص، والتي جاءت سلبية، فهي إما متهربة من مواجهة الحقيقة مثل موزة، أو تافهة كوداد، أو غامضة متلاعبة كنازك، أو انسحابية كأم حبيب الله، أو سليطة متواطئة كـ”أم لسان”.

تنبني في ثناياها على تأثير الانفتاح الاقتصادي على بنية المجتمع المصري والعلاقات الاجتماعية والحالة الثقافية، إذ سيطرت التفاهة على السينما والتي يسميها الراوي “السينما التبقيعية”، أي التي تقوم على تلفيق المشاهد والمواقف وحشوها بالنكات السخيفة والحكايات الساذجة، وحدث الشيء نفسه للكتابات الأدبية، التي تأتي سريعة سطحية.

لكن الفهم المتكامل لهذه الرواية البديعة يتطلب استخدام هذه المداخل جميعًا، سواء ما يرتبط بالبنية أو ما يتعلق بالسياق، كي نفهم كيف سقط بطلها وسقط معه كثيرون، بل سقط وطن بأكمله، ما تفصح عنه العبارة الأولى في الرواية والتي تقول: “كنت من أحباب الله مثل كل الأطفال، لكنني فقدت ذلك، أعتقد الجميع أيضًا، يحدث ذلك بالتدريج”.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري