فن وأدب - مقالاتمقالات

اسم الوردة .. الجزء الثاني

رغم كونه كيانًا صغيرًا مقارنة بالعالم الخارجي، فإنك ستجد في هذا الدير الذي تدور فيه أحداث رواية “اسم الوردة” عيوب الإنسان وشرور النفس البشرية كلها، فهو في نهاية الأمر عينة عشوائية صالحة للنقد الأخلاقي بوجه عام، صحيح أنه يضم مجموعة يفترض أنها الفئة الأكثر إيمانًا بين المسيحيين في مجتمعها، لكن لا تنسَ أن كثيرين خارج الدير أيضًا يدّعون الفضيلة دون أن يمنعهم ذلك من فعل الرذائل بعضها أو كلها.

ستجد الرهبان يتكتمون على كثير من المفاسد ويعرفون الحقائق لكنهم يخافون أن يتكلموا بها، والجبن والصمت و”الأنامالية ” والخوف من قول الحقيقة مشكلة معظم الناس سواء داخل الدير أو خارجه، صحيح أنه من المفترض أن يحوّل الدين الناس داخل الدير إلى أفاضل أو إلى نوع من البشر أفضل من الذي خارجه، لكنك في هذه الرواية تكتشف أن الناس هي هي في الداخل والخارج، وستجد كثيرًا من الرهبان داخل الدير متورطين في الرذيلة كما الناس في خارجه، وكما أن كثيرين في الخارج لم يصلوا إلى السلام النفسي وقد يُعلل ذلك بابتعادهم عن الدين والقيم الروحية، فستجد أن الرهبان داخل الدير يشعرون هم أيضًا بالتعاسة ويحقد بعضهم على بعض لدرجة ارتكاب كثير من القتل وإسالة الدماء، والرواية تطرح تساؤلًا أساسيًا حول الحقيقة، فالإنسان هو إنسان صالح بقدر انحيازه للحقيقة وهو إنسان فاسد إذا كان يكره ظهور الحقيقة أو يحاول دفنها أو تشويشها، وبطل الرواية سيكتشف أن الدير وأهله يتكتمون على الحقائق ويحيطونها بكثير من السرية ويمنعون الوصول إليها بما استطاعوه كله من حيل وأساليب، ويتصورون أنهم بذلك يحمون الدين، متناسين أن الله لم يرسل الرسل وينزل الدين إلا لكشف الحقيقة، فما الفرق إذًا بين أهل الدين وأهل الدنيا وبين أهل الله وأهل الضلال؟

الحكاية وراء رواية “اسم الوردة”

الرواية ودون أي خطوط حمراء تعري ما يحدث في الدير وهو رمز المسيحية، قد تقول إنها أحداث خيالية، لكن الحقيقة أن أمبرتو إيكو يؤكد أن ما ذكره كله في روايته يستند إلى واقعة حقيقية، وردت في كتاب من القرن الرابع عن سلسلة جرائم قتل وقعت في دير إيطالي لطائفة البنديكت، بالتزامن مع وصول الراهب الفرنسيسكاني والمحقق السابق في محاكم التفتيش: ويليام أوف براسكرفيل، وهو الأساس الذي نسج عليه إيكو روايته، ومع ذلك سنفترض أن الخيال اختلط في هذه الرواية بالحقيقة وحتى لو كانت كلها من وحي الخيال، فالروايات تكتب لتقدم الحقيقة عن طريق الخيال، كما أن صفحات التاريخ بل وصفحات الحوادث تؤكد أن ما حدث كله في الدير بتلك الرواية حدث مثله في الواقع بمعظم الأديرة، فما الفرق هنا بين الحقيقة والخيال؟ لنقل إن جرائم القتل والتحرش الجنسي في هذا الدير خيالية فما الفرق ما دامت هي نفسها التي تحدث بالأديرة في الواقع الحقيقي ويعترف بها بابا الفاتيكان علنًا؟ فالأديب هنا يصنع الخيال ليكشف الواقع، ويفضح الفساد ليصلح العالم لا ليهدم الدين أو يدمره، والناس حتى رجال الدين بشر معرضون للوقوع في الخطيئة وهم محاسبون في الآخرة مثل كل إنسان.

الرواية جاءت غنية بالشيفرات والألغاز والجرائم والخطايا، وفيها رسائل غامضة ولغات منقرضة ومخطوطات مفقودة، ومكتبة سحرية أشبه بالمتاهة صممت بهذا الشكل لتمنع وقوع الأسرار الكنسية المخبأة بداخلها في أيدي الناس، خصوصًا مع مزاعم تحريف الأناجيل عبر الحقب السياسية بالإضافة إلى الخلافات العقائدية بين الكنائس المختلفة، وبهذه المكتبة كثير من الأبواب السحرية والسلالم السرية وهو ما يثير فضول القارئ ويضاعف رغبته في معرفة الأسرار الدفينة واستكمال القراءة حتى كلمة النهاية، فالحبكة القصصية محكمة، ورغم تاريخية الأحداث هي كما قلنا صالحة لكل زمان، فلا تشعر باختلاف زمن الأحداث وأنت تشاهد النفوس البشرية الموجودة نفسها في كل زمان والعيوب الأخلاقية والمشكلات النفسية ذاتها، ورغم أن الموضوع تاريخي وفلسفي فإنه مقدم في إطار من الأحداث البوليسية والغموض والتشويق التي تستهوي معظم القراء.

سبب تسمية الرواية

يستمر أدسو مساعد ويليام بطل الرواية وتلميذه في نسخ الكتب، ويستمر بحث ويليام عن الحقائق المختبئة خلف صمت الرهبان، وعن الأسرار التي يعرفونها ويخشون البوح بها لمعرفتهم بالعواقب الخطيرة للبوح بالأسرار، خصوصًا مع استمرار حوادث القتل، التي في كل حادثة منها يصطدم ويليام بمزيد من الألغاز وبمزيد من الغموض والطرق المسدودة، ليزداد اللغز تعقيدًا فوق تعقيد، لكن ويليام الذي لا يعرف اليأس يستمر في المحاولة وعبرها يكتشف ما يعانيه هذا الدير من فساد وحقد وكراهية وعلاقات نسائية محرمة وممارسات شاذة بين بعض الرهبان، وعبرها أيضًا نتعرف طبيعة الصراعات الفكرية بين الطوائف المسيحية، لكنك ستلاحظ أن أمبرتو إيكو يتساءل ولا يجيب عن التساؤلات كلها بل يفتح الباب للقارئ ليفكر ويبحث عن الإجابة بنفسه، وإيكو بطبيعته من الكتّاب الذين يرفضون الإجابة عن التساؤلات التي يطرحونها، ويرى أن مهمته طرح التساؤل لا الإجابة عنه، ويقول في ذلك: “لو أردت تفسير العمل لما ألفت رواية”، فهو يعتقد أنه بالإجابة عن التساؤلات يكون العمل بحثيًا صرفًا لا يثير الخيال، كما أن الإجابة عن كل سؤال تحرم القارئ من حقه في التفكير، وأن العمل الأدبي في الحقيقة آلة لطرح التساؤلات لا للإجابة عنها، كما أنه من حق القارئ كما من حق الكاتب أن يشك في كل شيء حتى يستطيع استخدام خياله بكامل طاقته وعقله بكامل إمكانياته، وما جدوى الأدب إن لم يؤدِ إلى هذه النتيجة؟ وتلك إحدى متع القراءة والمعرفة، وعن اسم الرواية قال إيكو إن «اسم الوردة» جاء مصادفة، فالوردة استعارة مليئة بالمعاني و«الأشياء كلها تندثر ولا يبقى منها غير الاسم»، وهو في الحقيقة كلام غامض لا يوضح معنى الاسم ولا يشفي غليلًا، ولا يزيد الغموض إلا غموضًا، لكن هذا يناسب طبيعة أمبرتو إيكو في عشق الغموض، ومع ذلك فالأسماء عمومًا ليست مهمة وذلك لأن الوظيفة الأساسية للأسماء الدلالة على الشيء لا تعريفه، وغموض التسمية قد يذكرنا بمسرحية يوجين يونسكو الشهيرة “وما زالت المغنية الصلعاء صلعاء”، فمسرحية يونسكو ليس بها مغنية من الأساس ناهيك بكونها صلعاء، وعندما سئل مؤلفها في ذلك قال ما معناه: أردت أن أقول لا تلتفتوا إلى اسم العمل، فاختيار الاسم مشكلة يصادفها كل كاتب وقد يحيره اختيار الاسم، ولأني أردت أن أقول إن الأسماء لا تهم، اخترت لمسرحيتي اسمًا لا معنى له على الإطلاق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اسم الوردة رائعة إيكو التي لا تزال تدهش قراءها

عمومًا لا يستوقف الاسم القارئ كثيرًا بقدر الرواية نفسها خصوصًا أن إيكو يهتم بالتفاصيل لا بالأسماء.

هو لا يكتب شيئًا إلا لهدف في نفسه، وحتى المواقف والصور المبالغ في قسوتها داخل الرواية لها هدفها، مثلًا إحدى الجثث سيُعثَر عليها في برميل مملوء بدماء الخنازير داخل الدير وبوضع مقلوب إذ الرأس لأسفل والرجلين لأعلى، لكن حتى ذلك كان له تفسير منطقي، كما أن رسمه للشخصيات ووصفه الدقيق للمكان داخل الدير والدهاليز والمتاهات شيء يدل على قدرة عالية جدًا من التركيز واليقظة الذهنية والذكاء، وإمساكه بالخيوط وتنبهه لطبيعة الرواية طول الوقت دون أن يغفل عن شيء يؤكد تلك الحقيقة، فهي رواية ألغاز من التي تجعلك تتشكك في كل شخص وتفكر في كل احتمال، كما أنها فلسفية ودينية وهي في الوقت نفسه عمل أدبي يتحدث عن الفساد وعن الصراع داخل الكنيسة، والمؤلف يحافظ على هذه العناصر كلها في العمل في الوقت نفسه بمهارة وذكاء ودون أن يدع واحدًا منها يطغى على الآخر.

جاءت الرواية مملوءة بأفكار من نصوص قديمة ونصوص مناقضة لنصوص، مما يدل على سعة اطلاع الكاتب وجديته الشديدة في تناول الموضوع، لدرجة بحثه في كل شيء يتعلق به من الناحية العلمية والتاريخية ليناقشه داخل الرواية وبغير أن يبدو مُقحَمًا ودون أن يخرج العمل من صورته الروائية إلى صورة بحثية.

استطاع إيكو أن يصنع شخصيات لا تنسى داخل العمل وجعلها تجذب انتباه القارئ لغرابتها أو للغموض المحيط بها، مثل شخصية الراهب الأعمى الحاقد خورخي بورخيس الذي يبدو شبحًا، وسلفاتوري الراهب الطماع صاحب الماضي المريب الذي يتفوه بكلام غامض، وعالم النبات الذي يهوى زراعة النباتات السامة داخل الدير التي تسببت في بعض حوادث القتل الغامضة.

سيخوض ويليام مغامرات خطيرة وسط هذه الأجواء المخيفة والغامضة لكي يكشف عن القاتل المجهول، الذي كان من المنطقي أن يستهدف ويليام قبل أن يفضحه، لكن ويليام ووسط جو مرعب سيتخطى العقبات والمخاطر كلها في سبيل الوصول إلى الحقيقة التي ستجيء في النهاية مرتبطة بكتاب ضائع عن الكوميديا لأرسطو لكن عن طريق رموز امتلأ بها هذا الكتاب.

رواية متعددة الجوانب

تحتوي الرواية على اقتباسات من كتيب محاكم التفتيش لبرنارد غوي، وشخصيات روائية ظهرت في أعمال بورخيس، وكيبلينغ وغيرهما. أما لوحات الوحوش فمستقاة من لوحات بوش وفيليني وفونتس.

رغم شهرة الرواية ونجاحها الطاغي لا يعتبرها إيكو من أفضل أعماله الروائية، لكن النقاد وصفوها بأن حبكتها رائعة وأفكارها الفلسفية خالدة، وسردها جميل، وقد حصدت جائزة «ستريغا» عام 1981.

أهم ما ميز رواية “اسم الوردة” في نظر النقاد أنها متعددة الجوانب متسعة الأفق، فهي ليست رواية بوليسية فقط ولا سياسية تتحدث عن تحكم الكنيسة في السياسة فقط، ولا محض رواية تاريخية، وليست رواية لاهوتية تَطرحُ أفكارًا عن المسيحية خصيصًا، وليست وصفًا لحياة الرهبان والقساوسة وما انتشر فيها من كذب وغش وسرقة وزنا ولواط واغتصاب جنسي وارتكاب للمحرمات كلها في الوقت نفسه فقط، ولا هي رواية تفضح النظرة التكفيرية للكنيسة للأديان كلها بل وللطوائف الأخرى داخل المسيحية حصرًا، ولا محض رواية في دراسة الأديان تبحث في نقاط الخلاف بين الطوائف المسيحية، بل هي ما سبق كله في رواية واحدة.

يقول إيكو إن دخوله عالم الرواية جاء متأخرًا في نهاية عقده الخامس على الرغم من رغبته في كتابة الرواية في سن العشرين، وإنه حين قرر كتابة اسم الوردة وجد ما يحتاج إليه كاملا لكتابتها، نظرًا لاهتمامه ودراسته للقرون الوسطى وهو زمن الرواية بسماتها كلها.

نقد رواية اسم الوردة

لكن البعض يعتبر هذه الكثافة المعلوماتية من عيوب الرواية، إذ إنها في كثير من الأوقات تتجاوز السرد الروائي إلى سرد علمي وتاريخي قد لا يتناسب مع مسمى رواية، بل إن بعض أجزاء منها خرجت تمامًا عن الطابع الروائي إلى السرد المعلوماتي والتاريخي المحض، لدرجة تشعر معها أنها لم تكتب لقراء الروايات بل للباحثين، لكن يبدو أن المؤلف لم يجد طريقة أخرى لعرض المعلومات التاريخية والدينية، وهو في ذلك يراهن على صبر القارئ ورغبته في المعرفة وليس فقط في الاستمتاع بالرواية باعتبارها حكاية.

يركز إيكو على وصف الرهبان والقساوسة للغة العربية باللغة التي تشبه الديدان، وإشارتهم إليها بـ”تلك اللغة” للتعبير عن الاحتقار، وعندما لا يستطيعون إنكار علوم العرب وعظمتها يصفونها بأنها العلوم التي تشوبها قذارة الكفر.

يظل إدسو مساعد البطل في إلصاق وصف الكفر بالعلماء المسلمين، مع أنه كثيرًا ما يتحدث عن علومهم وآدابهم بإعجاب شديد ومشاعر إنسانية صادقة.

فنجده يقول على سبيل المثال “وتأثرت وأنا أقرأ صفحات ابن حزم، الذي يعرّف الحب كونه مرضًا عضالًا دواؤه فيه، والمصاب به لا يريد الشفاء منه ولا يبتغي الخروج منه”، ويعلق قائلًا: “والله يعلم كم كان هذا القول صائبًا”، وهكذا يرصد إيكو التخبط في تناول المسيحيين وقتها لمسألة الكفر، فغير المسيحي كافر إلا إذا قال شيئًا نتفق معه حتى ولو في الحب، فعندها يمكن أن نذكر اسمه بنوع من التقدير ودون كلمة كافر قبله، في إشارة إلى داء التعصب الديني والنظرة السلبية إلى الآخر بعكس ما تدعيه الكنيسة من روح المحبة والتسامح في المسيحية.

الحوارات الفلسفية داخل رواية اسم الوردة

أما عن الحوارات الفلسفية داخل اسم الوردة فهي كثيرة وهي أساس الرواية وأهم ما يميزها، وفيها عمق ودراية بالنفس البشرية، ومنها على سبيل المثال:

“إن السُذّج دواب تساق إلى المجزرة، يُستعملون عندما يراد وضع سلطة الخصم في أزمة، ويُضحى بهم عندما تنتهي الحاجة إليهم”. (تأمل كيف ينطبق هذا القول على ألاعيب الساسة في العالم الثالث والأنظمة الديكتاتورية).

“لا توجد حرب مقدسة، الحرب المقدسة محض حرب، عندما سقطت مدينة بيزيي، لم يولِ رجالنا اعتبارًا لا للمقام ولا للجنس ولا للسنّ، وأعملوا السيف في نحو عشرين ألف رجل، وبعد المذبحة نُهبت المدينة وأُحرقت”.

“الكتاب مصنوع من رموز تتكلم عن رموز أخرى تتكلم بدورها عن الأشياء. ودون العين التي تقرؤه يبقى الكتاب حاملًا لرموز لا تنتج مفاهيم كأنه أخرس”.

“الضحك من الشرّ يدل على عدم الاستعداد لمكافحته، والضحك من الخير يدل على الاستهتار بالقوة التي بفضلها ينشر الخير منافعه”.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

رواية “جومر”.. دفقات سردية عن غواية الرهبان

بوئيثيوس ومكانته الفكرية والثقافية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف