رموز الخير الأمريكي الفطري… “بومبيو” والتنمر السياسي
“انظروا إلى بناء التحالف… وأخيرا، انظروا حولكم في هذه الجامعة، التي وجدت منذ قرون. ليس من قبيل المصادفة أن العديد من الجامعات الأمريكية الأخرى مثل هذه تزدهر في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من بيروت إلى السليمانية. هذه هي رموز الخير الأمريكي الفطري، ورموز أمنياتنا لكم، ورموز مستقبل أفضل نرغب فيه لجميع دول الشرق الأوسط.”
هكذا أنهى مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي خطابه في الجامعة الأمريكية في القاهرة، متحدثاً وبكل ثقة عن “رموز الخير الأمريكي الفطري”!
هذا الخير الذي جسده وزير الخارجية في جملة المعونات الأمريكية للعالم، والمساهمة في التطلع لمستقبل أفضل لدول الشرق الأوسط؛ ومن خلال هذه الجامعات الأمريكية!
بومبيو الأمريكي والتنمر السياسي:
انبرى العالم أجمع لتبني الحملة العالمية لمكافحة التنمر في المدارس -وخاصة بين الأطفال- وهي الحملة التي ما زالت تلقى اهتمام المتخصصين النفسيـين حتى الآن.
لكن بنظرة أشمل، نجد أن التنمر بين الأطفال ماهو إلا رافد صغير من أشكال التنمر، يتمثل فيما يواجهه العالم من تنمر سياسي يفسره بومبيو بأنه “الخير الأمريكي الفطري”.
تماماً، كما في حالات التنمر المدرسي يتوهم الطرف الأقوى أن السبب الرئيسي لكبته لمشاعر الطرف الأضعف؛ هو لخير عام يقصده، يتمثل في الترفيه والتسلية عن الزملاء، وكذلك تنبيه هذا الطرف الضعيف بضعفه!
وبالرجوع للتاريخ والبحث في ثنايات صفحاته، نجد العديد من حالات التنمر السياسي والاحتلال والاعتداء بحجة الخير العام، وأن التوسع إنما جاء لصد العدوان أو لنشر شعلة النور في هذه الأقطار البعيدة.
لكن المميز في العصر الحديث بالمقارنة عن التاريخ، هو تطور رموز ووسائل الغزو الفكري المبررة والممهدة للطريق، والمدافعة عن سلوكيات الطرف الأقوى تحت دعاوى أنها للخير الفطري كما يقول بومبيو.
العلاقة ما بين الخير الأمريكي الفطري والحضارة الغربية:
هذا الخير المزعوم الذي جعل العالم قرية صغيرة تسير وفق قواعد الحضارة الغربية، لأنها هي المصدر الذي ينبع منه الخير الأمريكي، ويفيض على العالم.
وبتـتبع سريع لمسار الحضارة الغربية، فقد شهدت البزوغ والميلاد في أحضان القارة الأوروبية العجوز، حتى دفعت الأحداث السياسية إلى خلق عالم متعدد القوى وبأفكار أيديولوجية مختلفة؛ من الشيوعية والليبرالية، وظهور المعسكر الشرقي وفي مقابله الغربي.
ومع انتصار الغرب؛ عادت الكرة لعالم خاضع لعولمة القوى الأمريكية، لأنها ببساطة تقلدت رئاسة ونفوذ هذه الحضارة الغربية، ووضعت قواعد فرض هذا الخير العولمي وفرضت رؤيتها وروشتة الحل على العالم.
السوبر مان من رموز الخير الأمريكي الفطري:
لكن أمريكا لم تخترع أساس هذا الخير الفطري، وإنما توارثته من المسئولية التي كانت على عاتق الإنسان الأوروبي حيال العالم.
فالحضارة الغربية قد خلقت إطاراً فكرياً يُلزم الإنسان الأوروبي الأبيض -المتحضر- أن ينتشل غير الأوروبي من غياهب الجهل والتخلف.
هذه الرؤية يوضحها الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” بأن الفكر الأوروبي قد ساد فيه السعي المستمر للمنفعة فقط تحت دواعي المسئولية الأخلاقية، فأدت هذه الرؤية لتقسيم الأشخاص لـ “سوبر مين” Supermen يتحكموا في الأقل منهم درجة، وهم الـ “سبمن” Submen كما يسميهم المسيري.
وجميعهم كما نلاحظ ينطلقوا من دوافع المسئولية والخير الفطري، كما يسميها بومبيو الآن.
وانطلاقاً من هذا الخير والمسئولية اشتغل فتيل الحروب والدمار والقتل، وجميعها فداء للوصول للمدينة الفاضلة التي يسكنها الإنسان الكامل الفاضل.
مسئولية بومبيو في فرض الخير الأمريكي الفطري:
وفي عصرنا الحديث، نستشف هذه المسئولية والخير الفطري عند أمريكا والحضارة الغربية؛ في التأكيد المستمر لبومبيو بأن للكيان الصهيوني كامل الحق في الدفاع عن نفسه ووجوده ضد كل ما يعيق السلام والرؤية العولمية، بمسميات المقاومة والخروج عن الصف الخيري الفطري الأمريكي.
بالطبع فهذا هو البناء الذي يُشكل تلك المسئولية الأمريكية حيال المنطقة العربية، فالكيان الصهيوني يعتبر هو اللبنة الأساسية في مسار الخط الأخلاقي الفطري، والشاهد على الاندماج في هذا النمط الغربي المتطور.
الكيان الصهيوني من رموز الخير الأمريكي الفطري:
وعند ذكر الكيان الصهيوني، نستشهد بما ذكره الدكتور المسيري بأن التهجير الأوروبي لليهود في القرن العشرين قد جاء انطلاقاً من خير ارتأته أوروبا من خلال:
- تهجير اليهود من أوروبا لأنهم مادة غير نافعة في نظر الإنسان السوبر مين الأوروبي.
- يتم تهجيرهم لفلسطين لأنها يسكنها أقوام غير نافعين أيضاً في نظر السوبر مين الأوروبي، والأرض ستكون غير نافعة بالتبعية معهم.
- وبهجرة اليهود، ستكون فلسطين بساكنيها الجدد أرضاً مادية نافعة يسكنها قوم نافعين، وبالتالي تتحقق البيئة الخصبة الملائمة لتحقيق الخير العولمي الفطري.
ولهذا نشهد هذه العناية البالغة بالكيان الصهيوني والحرص الدائم على تحقيق مصالحه وضمان تفوقه العسكري، فهو البوصلة والدليل المادي الدامغ في معادلة الخير الأمريكي الفطري.
ويرى بومبيو وغيره من المهتدين بالشعلة العولمية أن حل أعتى القضايا في المنطقة العربية، لن يتم بعيداً عن التنعم بالسلام الدائم بالمعايير الحديثة، وتناسي حق المقاومة والإيمان بالقضية المركزية وهي فلسطين.
فلنتخيل أطفالاً في فصل دراسي، يتزعمه أقوى تلاميذه بحق القوة، فقرر هذا الزعيم نقل تلميذ من مقعده في الصف الأول، واستبداله بتلميذ آخر بالقوة؛ بحجة أن هذا هو النظام الأصلح للفصل!
ثم يدافع هذا المتنمر عن نفسه بأنه ما فعل هذا لمنفعة ذاتية، وإنما هو للخير، تماماً كما يؤكد بومبيو بأن أمريكا ما جاءت كقوة معتدية؛ وإنما هي قوة محررة للشعوب ومحققة لتطلعاتها.
كيف يكون الخير الفطري؟
من المؤكد أننا جميعاً نسعى حثيثاً لعالم أفضل ومدينة فاضلة، نسكن بين جنباتها في أمان ونتمتع بالسلام الدائم.
ولهذا فلزام علينا أن نفهم أن الحق بعيداً عن السيطرة والاحتلال، وأن نكسر أغلال القيود النفعية العولمية ورؤيتها؛ وأن نخوض في البحث عن هويتنا ونجعلها قاعدة مميزة ننطلق منها.
فالمدينة الفاضلة هي تلك التي تعلي من قيمة الحق بأن تعطي لكل ذي حق حقه، فتؤمن بأن لكل مجتمع دستوره وشخصيته، والتي لا بد أن يستمدها من مرجعيته الأخلاقية طالما أنها خاضعة لميزان العقل والمنطق.
أما مدينة الخير الأمريكي الفطري فهي المدينة التي تجعل من السيطرة والاحتلال عدالة، ومن تخريب وسرقة تراث الأمم مسئولية وتضحية.
مدينة قد خلقت من وسائل غزوها الثقافي منابر مستمرة لبث الأفكار المغلوطة عن الفردوس الأرضي، والمدينة المثالية التي تعلو فوق التل كلما كانت الاستهلاكية وثقافة التسوق بلا شبع ولا طائل، هي القدوة والنموذج الذي لا بد وأن نحتذي به.
وهذه هي رموز الخير الأمريكي الفطري، ومساهمات الحضارة الغربية للعالم.
إلا أن هذه أيضاً ليست دعوى لإعلان الحرب على كل ما يمت للحضارة الغربية بصلة، وإلا وقعنا في الفخ مثل هذه الحضارة، وإنما المطلوب هو تحري الدقة والبحث عن الملائم مع هويتنا للاستعانة به.
مصادر:
- https://cnn.it/2Hh2UiM
خطاب بومبيو في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بتاريخ 10/1/2019 - كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان/ د. عبدالوهاب المسيري.
- كتاب الفردوس الأرضي دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة/ د.عبدالوهاب المسيري.
اقرأ أيضاً:
سلسة شرح الفلسفة السياسية ( الجزء الأول ) : المقدمة
القضية الأهم في عالمنا اليوم.. كيف ننصر فلسطين؟
أخلاق الفرد وتأثيرها على نفسه وعلى مجتمعه – هل الأمر مؤثر فعلاً ؟