مقالات

رمضان ليهزم غربتنا (الجزء الأول)- كيف نرمم نفوسنا المنهكة في هذا الشهر الكريم ؟

شهر رمضان ضيف يأتينا مرة كل عام، نظن به وبنا خيرا ونحسبه فرصة لتسمو نفوسنا المنهكة.

منهكة من فرط ما هى مأخوذة بهموم كثيرة  مختلفة؛ فحياتنا أشبه بدوامة صراع بيننا وبين الهموم  يذهب هم بغمه ليصرعنا آخر، و نتطاحن ..

لا يبخل بعضنا على الآخر بالفضل إنما  نبخل بحقوق الآخر علينا مراعاة  لقوانين الصراع  و من أجل أن نكون الأفضل أو هكذا نظن!

وعندما يقترب رمضان  ونحيا أيامه الأولى يحيا فى الكثيرين أمل جديد فى عودة  نفوسهم إلى أصولها  المحببة إليها حيث تشفى من  غربة الشتات  فتطمئن.

هناك شيء ما أو أشياء تنقصنا.. نشعر بذلك ، هناك  شروخ فى جدران نفوسنا ، وشهر رمضان نحسبه فرصة للشفاء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لماذا  رمضان  جدير بهزيمة غربتنا ؟

وكيف نجعل من الصيام  بداية لنقترب من أصل نفوسنا المحبب  حيث نشفى  من الشتات  فنطمئن؟

ترميم النفوس في رمضان بعلاج مؤقت أم جذري ؟

من الناس من يرى جدران بيته  يصيبها شروخ فيستعين بالجبس أو الأسمنت  فى سد الفراغات  وانتهى الأمر ، ومنهم من يبحث عن سبب هذه الشروخ ، و بناء على معرفة السبب يكون الشروع فى تنفيذ الحلول المناسبة . قد يكون الحل هو مجرد سد الشروخ ، أو يكون حال جدران  البيت  دليل  على ضعف فى أساساته وبالتالى  -حينها – يكون سد فراغات الجدران  حل مؤقت  ظاهرى ، حل لا يحمي  من انهيار المنزل على ساكنيه  فى أى وقت لأن أساسه  خَرِب ، و  أثر الخراب  ظاهر وجلى فى تصدع الجدران .. لكن لم  يبالى صاحب المنزل فى البحث عن السبب.

ما أشبه نفوسنا المنهكة المتصدعة  بهذا المنزل !

و لما يأتى رمضان نحاول به  ترميم نفوسنا المنهكة . نمتنع عن الطعام والشراب  فى وقت محدد –كما تعلمنا من الشرع-  ونقبل على  قراءة القرآن  و نردد بعض الأذكار  و نرجو بذلك أن يعود الاطمئنان إلى داخلنا.

وهذا من الخير فينا  إذ نرى فى  الدين – باعتباره مظهرا  لاعتراف الإنسان بوجود مغاير للمادة  – وسيلة للخلاص..

لكن  ماذا لو كنا نشبه- فى حالنا هذه- صاحبنا الذى سد  شروخ جدران منزله دون بحث عن السبب؟!

إننا نشبهه فعلا إذا كان تعاملنا مع الصوم على أنه مجرد امتناع عن الطعام والشراب فترة ما من اليوم  ونبحث عن الفوائد الصحية للصوم باعتبارها الغاية منه، وكان إقبالنا على كلام الله  بالعين واللسان والآذان  دون أن يتعداهما!

هل الأمر يتجاوز الحواس والغرائز ؟

إذا كنت عاقلا تؤمن بوجود إله خالق للكون  له  مطلق العلم والحكمة ، ترى رعاية الله لك منذ كنت فى رحم أمك قبل أن تولد ، ترى تدبيره لأمرك حتى قبل أن توجد فى رحمها ، وتعلم أن من رعايته لك أن يرسل لك  بشرا رسلا يوحى إليهم بعلم يبلغونك به لتعلم الحق من الباطل ، وتؤمن أن محمدا  الصادق الأمين هو النبى الخاتم و تعلم أن القرآن كلام الله..

إذا كان هذا كله ؛ فكيف تقبل على  كلام الله ،الذى فيه هدى ونور وموعظة، بحواسك دون عقلك الذى به آمنت بالله ودون قلبك الذى تعلق بخالقه اللطيف الذى يرعاه ويدبر أمره ؟!

إذا كان صيامنا مجرد امتناع عن الطعام والشراب  و نتصبر على ألم الجوع بضع ساعات  بأن الصوم مفيد طبيا مثلا، و إذا كان إقبالنا على كلام الله وذكره مجرد حركات لسان أو صوت لا يتخطى الآذان  ونحاول بذلك أن نصل بنفوسنا إلى الاطمئنان  فإننا  على أغلب الظن سنفشل فى تحقيق المراد…  لماذا؟

لأننا نحاول ترميم نفوسنا المنهكة  من الشتات والغربة  باغتراب إضافى!

نعم .. من مظاهر االغربة أن لا يتخطى الصوم فراغ البطون  وأن لا يتجاوز كلامُ الله المكتوبُ الحواسَ.

وليست مشكلة  “الإدراك الذى لا يتخطى الحواس ”  خاصة  بالصيام  أو كلام الله  بل إن إدراكنا لأنفسنا و للعالم حولنا  قليلا  ما يتخطى العين والأذن واللسان و بعض  الغرائز كالشعور بالجوع، أى قليلا ما يتخطى الحواس والغرائز.

الإنسان الغارق في عالم الحس

( لا يسعفنى مقامى العلمى  ولا مقام الكلام فى  تفصيل أسباب داءنا؛ داء الإدراك  الذى   يرضى  – فى أحيان كثيرة-  بالإخلاد إلى المحسوس المادى  ولا يرتقى لمعنى – حتى وإن كنا لا ننكر المعنى . هناك أسباب تربوية(  تعليم وإعلام )  وحضارية وغيرها )

لكن أعراض هذا الداء واضحة لنا  وعلينا –نحن المرضى.

فالإنسان المريض بالغرق فى  عالم المحسوس

كيف تكون رؤيته لنفسه ؟

يرى نفسه  مجرد جسد ..  و رغم ما يمر به من مشاعر حب وكره وغضب وحنين وغيرها .. ورغم ما يشغل فكره من  مشكلات وقضايا  إلا أن هذا  لا يتدخل – غالبا – فى أن يتوقف  الفرد أمام  كيانه ليتفهمه و تبقى همومه وغاياته محصورة محشورة فى الجسد وحاجاته . وحينها تكون سعادته  فى وقت لا يشعر فيه بألم  يتكئ على فراش ناعم مريح  يتسلى بشئ مسلى  مضحك لا يجنى من ورائه سوى  قضاء وقت مريح  يهرب فيه من  كل مسؤولية  وفى متناوله كل مايشتهى من طعام وشراب. و لا سعادة فى غير ذلك ولا سعادة أبعد من ذلك

هل أنت بحاجة لأنبهك أن الجسد موجود  وبالتالى له حقوقه بحدود ؟!

حسنا! .. قد فعلت

الرؤية الضيقة القاصرة

لكن أن يكون الجسد هو الموجود الذى له الحظ الأكبر(وأحيانا الوحيد )  من الاهتمام  وهو  وحده ما نبحث له عن حقوقه  فهذه  حال الإنسان الذى لا يتخطى إدراكُه الحواسَ …  نعم ، هو إنسان يفكر ويشعر لكن ما تزال رؤيته  لنفسه غير متوازية مع كل كيانه.

ربما المرض لا يبدو خطيرا  حتى الآن؛ لذلك  فلنتساءل كيف تكون رؤية المريض لعالم الأشياء؟

فلنأخذ  الطعام كمثال.. الإنسان  عنده قدرة  مَكَّنته من الحصول على بعض المال فاشترى طعام (فاكهة مثلا) فكيف يرى هذا الطعام ؟!  يرى الفضل كل الفضل له لأنه يحصل على المال الذى جلب له الطعام ! لا يتفكر مثلا فى مذاق طعامه  كيف يشعر به  وماذا بعد الشعور بالمذاق الحلو؟!  لا يتفكر فى شكل الفاكهة التى يأكلها ؟ وكيف  كانت رحلتها  منذ كانت حبة ميتة فى باطن الأرض  ورحلة تكونها ؟ (انظر إن شئت آيات سورة عبس من  24 إلى 42) لا يتفكر فى  القدرة الممنوحة له ليحصل على المال  ليشترى به طعامه ؟! ولا يتفكر فى القدرة الممنوحة لغيره من البشر  العاملين فى  مجال الزراعة والنقل والتجارة  حتى  يصل إليه طعامه؟!

إنه يرى الأشياء  منحة  من نفسه إلى نفسه.. فلا يشكر إلا نفسه!

مثال الطعام قريب من كل البشر و يمكنك  أن تقيس  على ذلك  كل عالم الأشياء تقريبا؛ طالما الإنسان محشور فى الإدراك الذى لا يتجاوز الحس!

رؤية الإنسان المادي للأخر

حسنا!  صورة المريض إلى الآن نستجمعها فى:  إنسان سعادته فى الجسد  وفقط  وبلا حدود، ويرى أنه  بقوته وحده يملك الأشياء!

فماذا عن رؤيته للآخر؟!

الآخر مجرد شيء يستغله فى تحقيق رغبة، أُصاحب فلان لأنه سيتوسط  لى  فى عمل! ، أختار  رجلا بمواصفات شكلية ومادية  وفق الكتالوج ليكون سبب سعادتى الأبدية!

الآخر إن  حقق  رغباتى بالطريقة التى تُرضينى؛ رضيت عنه وإن لم يفعل غضبت عليه وإن كان لى بعض قوة؛ فهلاك الآخر هو الحل كى أكون سعيدا!

وأخيرا ماذا عن علاقة المريض ب “الإدراك الذى لا يتجاوز الحواس”  بسياسة مجتمعه ؟

يُتبع فى الجزء الثانى من المقال..

 

اقرأ أيضا :

وقفات رمضانية 

رمضان، في كهف أفلاطون

النقاش الجرئ والضجر العلني، لماذا نصوم في رمضان؟ ما الهدف من كل هذ الشقاء؟