مقالات

شهر رمضان بين هلالين

بابتداء شهر رجب من كل عام تهل طلَّة رمضان، أقل من ستين يومًا تقريبًا تفصل بين بداية الشهرين، بينهما ارتباط، فوصول أحدهما منبئ لحتمية قدوم الآخر.

في الصِّبا قبل اكتمال النضج، كان لرجب فرحتان، فرحة قُرب شهر شعبان، تحديدًا منتصفه، وليلته التي تُحيا بمولد كبير، يحج إليه كثير من جنوب الصعيد وشماله، سعادة كانت مغروسة في القلوب طيلة ليالي المولد، وحسرة تركز في يومه الأخير، صمت مخيم، وحزن على الرحيل، وبقايا من صخب بائت، وشوارع ممتلئة بنُتَفٍ من ضجةٍ ذهبتْ.

فرحة أخرى تعالج القلوب الكسيرة هي اقتراب شهر رمضان، ينقص الهلالُ، يستمر في تضاؤله يومًا بعد يوم، يختفي تمامًا، إلى أن تتطلع العيون إلى السماء في انتظار الهلال الوليد، يبدو في أول يوم في أتم طزاجة، بكرًا، عفيًا في محبته التي تملأ كل كبير وصغير، بعد صلاة العشاء، تنبعث من الراديو أغاني رمضان، أغاني بداية الشهر لها مذاق مختلف عن مذاق أغاني الوداع والرحيل، الأولى تؤملك بأن الشهر طويل، والثانية تنبئك بحسرة جريان الأيام وسرعة انقضائها.

الصوت الملائكي

تميز شهر رمضان علامات في مصر، جنوبها وشمالها، أولها وربما أعمقها رسوخًا وثباتًا في قلوب كثيرين صوت الشيخ محمد رفعت في أوقات ما قبل انطلاق مدفع الإفطار، صوت يُلوِّن تلك اللحظات، تُشعر الصائم أن هذا الصوت رغم ملائكيته فإنه يمشي على قدمين ويذهب إلى كل شخصٍ، ويربت على كل قلب، ينبهه بأنه في رمضان، وبأن وقت الإفطار قد اقترب، ويعده بفرحة قادمة، تصمت الأصوات، الكون كله كأنه في لحظة ترقب، تخرس الكائنات للحظة ثم يحدث انفجار يتلوه انطلاق “الله أكبر”، في تلك اللحظات دعاء يرتفع، وأكف تعلو، وأعين تهطل، ورجاء يتردد على الألسنة، لحظة مسلوبة من الزمن فيها من الخشوع، فيها من انكسار الروح أمام بارئها، فيها سكينة لا تُوصف، وصفها لا يفي، ومحاولة رصدها يفسدها، لو كانت القلوب تملك لغة لفاقت الألسنة! لكنها عاجزة عن التعبير، فقط تحس وتشعر وتسكن في لحظة الرهبة والتخشع.

امتزاج المكان بالزمان

رمضان في مصر

اضغط على الاعلان لو أعجبك

روائح رمضان يمكن التقاطها في الأعمال الأدبية وتلمُّسها بين سطور روايات مثل رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ، فبعد انتقال عائلة “أحمد عاكف” إلى حي خان الخليلي هربًا من كثرة الغارات في حي السكاكيني في أثناء الحرب العالمية الثانية، حي خان الخليلي له خصوصية الجوار مع المشهد الحسيني، وهو ما جعل أحمد عاكف تسكن نفسه إليه، يقدم رمضان فيضاف حضور المكان ذي الخصوصية وامتزاجه بالزمان، فللشهر الكريم مذاق مختلف في تلك الأمكنة العتيقة مثل ميدان سيدنا الحُسين وأروقة الأزهر، والغورية وشارع المعز لدين الله الفاطمي.

يقول راوي نجيب محفوظ في رواية خان الخليلي:

“واقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل. لكن رمضان لا يأتي على غرة أبدًا، وتسبقه عادة أُهبة تليق بمكانته المقدسة، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك –وكانت في الواقع المسؤولة الأولى عن جلال الشهر وجماله– فجعلت منه يومًا حديث الأسرة قائلة: إنه شهر له حقوقه كما له واجباته”.

اقرأ أيضاً: رمضان منذ ألف عام

مسحراتي رمضان

في كتاب “القاهرة في حياتي” للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، حديث شجي عن شهر رمضان ورصد للقاهرة الرمضانية، إذ يجتمع سحر الزمان والمكان في آن، وتتجلى عادات المصري التي نَسفت أغلبها مجريات الحياة الحديثة وسرعة إيقاعها، كان المسحراتي في الأحياء الشعبية علامة مميزة لليالي رمضان، وهو يختلف عنه في البلاد الريفية والصعيدية، تقول الدكتورة نعمات: “كان المسحراتي في طفولتي الباكرة في مدينة مغاغة (في محافظة المنيا) شيخ عذب الصوت حسن السمات، على غير عادة المسحراتية في الأرياف، حتى الطبلة منه رقيقة شجية كأيِّ صوت يُسمع في سكون الليل، كنتُ في السابعة أو أقل قليلًا، وكنت أنتظر مرور الصوت الجميل الذي يقول في مدح الرسول:

وأحسن منك لم ترَ قط عيني       وأجمل منك لم تلدِ النساءُ

خُلقت مبرأ من كل عيب             كأنك قد خلقت كما تـشاءُ

المأكول والملبوس

رمضان في مصر

من العادات الشعبية المتجذرة في وجدان الشعب المصري ربط كل مناسبة دينية بالطعام والملبس؛ إشارة مادية لشيء روحاني، وترسيخ وتمظهر لها في الواقع، على أنَّ الجانب الروحاني لم يكن غائبًا يومًا، فكما هو معروف أن الشهر يُقسم إلى ثلاثة أقسام، عشرة أيام أُول وعشرة في المنتصف، وعشرة تمثل الثلث الأخير، ففي التراث الديني الإسلامي شهر رمضان “أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار”.

لكن العقل الجمعي الشعبي له تقسيمه المختلف إلى مطعوم وملبوس، فيقولون “عشرة مَرق، وعشرة حَلَق، وعشرة خَلق” فالمَرق معناه الماء غُلي فيه اللحم فصار دسمًا، والحَلَق إشارة إلى الكعك الذي يأخذ شكلا مدوَّرا مثل الحلقة، والخَلَق بفتح الخاء واللام وهو كلمة تعني البالي من الثياب لكن في العامية المصرية فمعناها القماش والملبس خصوصًا.

هلةُ العيد

العادات تتنوع من بلد إلى آخر؛ قرى ومدن يحرص أهلها على صنع الكعك قبل رمضان، لأن النساء مشغولات في إعداد الإفطار، ويشقُّ عليهن الجمع بين العملين، لكن لم تزل في بعض البلدان المصرية عادة تخصيص الأيام الأخيرة من الشهر الكريم لإعداد الكعك، وصنع البسكويت، منذ سنوات، كانت في القرى الأفران الطينية، جو الشتاء يسمح بالسهر لفعل ذلك الطقس، تهب روائح العجين والسمن البلدي، لا تدري من أين ينبعث بالضبط ذلك الخليط، فكل بيت له طقسه، المولع به.

ما بين إحساس بعظمة الشهر واستعداد له من قبل قدومه، وبين طقوس وعادات تكاد تكون اندثرت أو هي كذلك في المدن الأكثر اتساعًا وصخبًا وإمعانًا في محو الماضي، تنبتُ أحاسيس وتُزهر أخرى، يُطوى الشهر الكريم كشهاب سطع وسرعان ما اختفى، تُطوى الأيام، لتحضره من جديد، مُجددة الذكرى وباعثة للروح من مرقدها طُوال العام.

مقالات ذات صلة:

حقيقة صوم رمضان بين المفكرين والفلاسفة

رمضان كريم!

المشروبات الرمضانية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د./ أحمد جاد الكريم

كاتب وروائي دكتوراة في النقد والأدب