تخليص الإبريز قراءة سردية
ظلت مصر عبر حقبها المتتابعة قبل العصر الحديث في عزلة عن الثقافة الأوروبية الحديثة، ترزح تحت وطأة الخلافات المملوكية والعثمانية، لا تتعرف نَسَمًا لطريق التقدم ولا تجد مَن يخطو بها نحو الانفكاك من تلك العزلة، حتى قيض الله لمصر حاكمًا حالمًا أراد أن يستقل بها ويبنيها على الطراز الأوروبي الحديث.
رفاعة الطهطاوي في بعثة محمد علي
فأرسل “محمد علي” الإرساليات والبعثات إلى “فرنسا” عاصمة النور والثقافة آنئذ، آملًا أن يتزود هؤلاء المبعوثون من ثقافتها وحضارتها، ثم يعودوا إلى مصر وقد امتلأت عقولهم وتشبعت أفكارهم بمشاعل التقدم العلمي والثقافي، واختار ابنًا بارًا من أبناء مصر ليكون رائدًا دينيًا لهؤلاء المبعوثين، يرشدهم إلى الصواب ويؤمهم في الصلوات ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم.
من هنا كان “رفاعة الطهطاوي” على موعد مع الحضارة الأوروبية الحديثة، فظل خمس سنوات هي مدة البعثة ينهل من ثقافتها وعلومها ومعارفها، إذ لم تقعد به همته عند حدود وظيفته التي كُلف بها، بل دفعته نفسه الشغوف المحبة للعلم والإصلاح أن يسعى للعلم منذ اللحظة الأولى التي رُشح فيها لهذه البعثة.
تعلم الفرنسية وهو على ظهر المركب التي عبرت به من الشرق إلى الغرب، ولما وصل إلى “فرنسا” انكب على شتى المعارف الإنسانية يحصّل منها ما استطاع أن يحصّله دراسة وترجمة، وغدا الإمام الفقيه باحثًا أدبيًا علميًا سياسيًا وجغرافيًا. وقد استفاد “الطهطاوي” من ملكاته ومواهبه التي أعطاه الله إياها في بناء أسلوبه الآسر في الشرح والتعليم والإصلاح والتأليف والترجمة.
كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز
عندما نطالع كتبه وآثاره الأدبية الخالدة نجد أنها اصطبغت بصبغة السرد الروائي الذي يلائم طبيعة التعليم والإصلاح وبناء الناشئة ونقل الأخبار، ويظهر هذا جليًا في سفره الماتع: “تخليص الإبريز في وصف باريز” الذي أراده تقريرًا وافيًا عن بعثته ووصفًا شاملًا لما رآه كله، فقد بناه على ست مقالات أقامها على الأسلوب الحكائي، بادئًا بوصف منطلقه والبلاد التي مرّ بها إلى أن وصل إلى “فرنسا”، فتحدث عن تقاسيمها وجغرافيتها وتجارتها ونظام حكمها وأحوال أهلها، وما وقع بينه وبينهم من مقالات تناولوا فيها الحديث عن إسهاماتهم في العلم والتأليف وخصوصًا ما يتصل بجهودهم بشأن الآداب العربية.
يقول: “اجتمعت في “باريس” بفاضل من فضلاء الفرنساوية شهير في بلاد الإفرنج بمعرفة اللغات المشرقية، خصوصًا اللغة العربية والفارسية، يسمى “البارون سلوستري داساس” وهو من أكابر “باريس” وأحد أعضاء جملة جمعيات من علماء فرنسا وغيرها، وقد انتشرت تراجمه في “باريس” وشاع فضله في اللغة العربية، حتى إنه لخص شرحًا للمقامات الحريرية”.
ملاك الأمر في هذا الكتاب أن “رفاعة” أراد أن يصف فيه ما وقعت عليه عيناه كله في تلك البلاد ليكونه ذلك إرشادًا لأهل مصر وتعريفًا بما وصلت إليه الحضارة الحديثة في بلاد أوروبا، وتجدر الإشارة إلى أن “رفاعة” لم يرد أن يكون كتابه وصفًا لفرنسا وأهلها وحيواتهم فقط بل نجد أنه وشّى كتابه بكثير من الأشعار سواء ما كان من نظمه هو أو من نظم شعراء آخرين، وفي هذا ملحظ مهم يدل على الذائقة اللغوية الشاعرية لدى “رفاعة” التي استطاعت أن تدلل على أغلب المواقف التي ينقلها بأبيات من الشعر.
كيف وظف رفاعة الطهطاوي تقنية الوصف
وباستجلاء هذا الموضوع فنيًا وأدبيًا نجد أن “رفاعة” قد نجح كثيرًا في توظيف تقنية الوصف وما يلازمها من تقنيات السرد في بناء هذا الكتاب، إذ الوصف هو تمثيل الأشياء أو الحالات أو المواقف أو الأحداث في وجودها ووظيفتها، كما أن للوصف وظيفة سردية وهي: تزويد القارئ بالمعرفة اللازمة بخصوص الأماكن والشخصيات، وتقديم الإشارات التي ترسم التصور العام أمام القارئ، وهذا من الأمور التي يجب على كتّاب أدب الرحلات مراعاتها حتى يستطيع القارئ أن يتمثل تلك البلاد التي لم يذهب إليها قبل ذلك.
لذا نجد في هذا الكتاب تداخل الوصف مع السرد في الحكايات حتى يغدو التمييز بينهما أمرًا دقيقًا من الناحية العملية، فإننا إذا وجدنا في هذا الكتاب وصفًا خاليًا من السرد، فإننا لا نكاد نجد سردًا دون وصف، وهذا التداخل بين الوصف والسرد يمكن أن نسميه بالصورة السردية، وهي الصورة التي تعرض الأشياء متحركة، أما الصورة الوصفية فهي التي تعرض الأشياء في سكونها، وبهذا يكون التداخل بين الوصف والسرد هو الأنسب للبناء الفني لمثل هذا الموضوع.
هل نجح رفاعة الطهطاوي في إبراز مظاهر التغريب
على أن وصف “رفاعة” لما شاهده لم يكن مجردًا في بعض الحالات، إذ كان هذا الوصف مشفوعًا بتعليقات وضيئة تنير الطريق أمام القارئ ليميز الخبيث من الطيب ولا يسوقه إعجابه بتمدين هذه البلاد إلى التقليد الأعمى الذي يعمى عن كل كليلة، فليس كل اختلاف يكون نافعًا، وليس أهل “فرنسا” سواء في التحضر والتمدين، وفي هذا يقول واصفًا بعض مذماتهم: “وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم”، وهذا على عكس ما نراه عند أهل مصر من المروءة والشهامة والكرم وبخاصة في مواطن الأحزان والآلام، وفي الكتاب كثير من التعليقات الرفاعية التي تحفظ القارئ من الانسياق وراء مظاهر التغريب الفرنسية دون وعي.
هذا قليل من كثير يمكن أن يقال عن هذا السِفر الماتع الذي قدمه رفاعة الطهطاوي إلى المكتبة العربية لافتًا النظر إلى نوع جديد –في حينه– من أنواع الكتابة الأدبية التي امتد أثرها بعد ذلك لتخرج لنا كتب أدب الرحلات، وكثيرًا من الكتب السردية الروائية.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا