مقالاتفن وأدب - مقالات

رسالة صائم في غربة

رغم الأعوام التي مرت على “أحمد” هناك إلا أنه لم ينسَ محبوبته، وقف شارد الذهن تتملكه الذكريات ، فلا أنيس غيرها في الغربة، أطل قبيل الغروب من شرفةٍ بمحل عمله مشاهدا للسيارات والمارة، لحظات كم كان يعشقها هناك، لكن المشهد ههنا تبدلت خارطته، تفرقت أفكاره مهلهلة يُمنة ويسرة، بين الفينة والأخرى يستطلع ساعته انتظارا لموعد الإفطار، لا أحد حوله يعرف ما يشغله، ولا أحد يشاركه مشاعره، آه وألف آه!

كم هو يحن الآن شوقا وعطشا لقرآن المغرب، وصوت الشيخ محمد رفعت، روحانيات ونفحات افتقدها في هذا البلد البراجماتي الذي تُداس وتُبتَلع فيه أحلام وآهات الغرباء تحت مقصلة الدولار، كما يبَتلع النهر فسيلةً على حافته كان جُل أحلامها هو النماء قبل مجيء الطوفان.

رحلة الذكريات

وقف أحمد  يُذّكر نفسه بنعمٍ ما كان يستشعرها إلا حين افتقدها! ما أجمل دفء العائلة! وما أشهاها لقمةً تُستساغ في حضرة الجميع حول مائدة الإفطار ونحن ننتظر الأذان، كم كان أبي يذكرنا بالدعاء المستجاب في تلك اللحظات، ثم تأتي أمي وهي تضع ما لذ وطاب على المائدة، فتقول: “لا تدعوا لخير الدنيا فقط يا أحبابي، فهي الممر والآخرة حتما هي المستقر”.

ما أجملها من لحظاتٍ يشتاق لها  قلبي، تلك الليالي المؤنسات بحكاوى جدي قبل أن تدق طبلة المسحراتي، ثم الذهاب لصلاة الفجر، العائلات تخرج في جماعات للصلاة، الزينات تملأ الشوارع، الأضواء تشعرنا بألوانٍ من الأمل والسعادة كادت تسري بأوردتنا، أصوات المآذن تستجلب القلوب قبل المسامع، يا إلهي! ما أجملها ليالٍ كنا نقيم فيها دورات الكرة الرمضانية.

لم يستكمل رحلة الذكريات حتى قاطعه صوت هاتفه، استخرجه ليرد، فإذا بصديقه “محمود” الذي يعيش وعائلته هناك بالقرب منه يدعوه ليفطر معهم اليوم، تهللت سرائره، انقشعت غمته، لم يتردد بأن يقبل الدعوة، أخذ يعد العُدة للذهاب لبيت صديقه، استشعر المحيطون من حوله سعادة تغمره لا يدركون علتها، ولكن كل ما يفعلونه لا يتعدى ابتسامة لهذا الوجه الذي تبدلت خارطته، همّ بالنزول لكن الأحزان استوقفته لتذكره بأن ساعات الدوام لم تنتهِ بعد، وأنه مازال أمامه ساعتان من العمل،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تجمد به المكان، نظر لساعته مستوحشا دقاتها، ربتت على كتفيه ثم أخبرته بأن يستدعي الذكريات لترافقه من جديد، هز رأسه محملقا إلى السماء، كاد أن ينفرط الدمع من عينيه لولا كبرياء الرجال، أخرج هاتفه، أخبر صديقه في رسالة مسجلة بأن ساعات الدوام هنا أجهزت على الكثير من سعادة أيامه وشبابه، وأن لقمة العيش أجلت قبول الدعوة حتى يحين آذان فجر يوم جديد.

اقرأ أيضاً:

الغربة وآلامها

رمضان ليهزم غربتنا

الصيام والتغذية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. هاني موسى

كاتب صحفي وروائي