الحَجُّ.. بين بلاغة الرحلة وغايتها
بابتداء شهر شوال وهلة عيد الفطر المبارك، تنطفئ شمعات رمضان الثلاثون، لتضيء بهجة العيد ليوم أو بضعة أيام، ثم تعود نغمة تذكر رحيل رمضان لتدبَّ حسرة وحرقة في القلوب من جديد.
لكن أيامَ الله لا تنمحي ولا ينقطع خيرها، فالإشارة المذكورة في الآية الكريمة “وذكرهم بأيَّام الله” للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومطالبته بالتذكير بتلك الأيام والتماس بركتها، علامات استنهاض للناس من رقاد الروح في بحر المادة، والارتفاع ولو قليلًا والرقي نحو السماء، ومجاوزة الأرضي والتطلع للأعلى.
بياض أجنحة الملائكة
يأتي الحَجُّ آخر أيام الله في السنة الهجرية، فبه تُختتم هذه الفريضة ليبدأ شهر مُحرم وتتوالى المناسبات بعد ذلك، رحلة عظيمة البلاغة في الزمان والمكان، رحلة يقطعها ضيوف الرحمن من شتى بقاع الأرض، تختلف المواقيت والأزمنة، تتعدد الأمكنة والبلدان، أُناس بألسنة مختلفة، ولغات شتى، الكل يتآخى في مكان محدد مؤطر، وزمان مخصوص، تتساقط كل الفروق، لتتجاور كل الاختلافات، وتأخذ مظهرًا واحدًا، صوت واحد يصعد لفوق، ولباس مُتحد، مظهر راقٍ تؤسسه أخلاقيات تُهذَّب، ونفوس يُكبح جماحها، ووجوه تتطلع لأعلى، وأيدٍ تقذف القبح والشرور، وملائكة تنزع كل سوءات قلوب البشر لتصير في بياض أجنحتها المرفرفة في سماوات الله.
جمال رحلة الحج
الرحلة تبدأ بعربات تنقل الحجيج إلى الموانئ والمطارات، تصحبها الأغاني والاحتفالات كأنها أعراس يُزفُّ أصحابها إلى عرائسهم، تعود مُهللة في انتظار عودة ضيوف الرحمن لتُستأنف الاحتفالات مرة أخرى.
رحلة قطعها فقراء وموسرون، مساكين وأثرياء، عصاة ومذنبون، وتقاة أنقياء كالملائكة، صوفيون ومتبتلون واقفون على باب الله، ينتظرون أن تُفتح نوافذ الرحمن، ثمة رحمات تتنزل من السماء عليهم، لتعم الجميع بلا استثناء.
قديمًا كانت الرحلة بالجمال، مئات الأميال تُقطع، أقدام تخوض في الرمال، ووجوه تتحمل رياح الصحراء الحارقة، لكن القلوب التي تهفو تُوهب مساحة للتحمل، الجَلد من أجل المرجو والمأمول بعد طول كدٍّ.
مغزى الرحلة
باقتراب الرحلة، والدنو من الحضرة الإلهية، تتطرق العيون تتلوها القلوب، هنا سار السابقون، هنا تحملوا وعانوا كثيرًا، نزفوا الدماء والأرواح، رتقوا ثقوب جراحهم بالصبر، يتِّبعون النور الذي جاء فغيَّر وجه الأرض والكون كله، سار وخطا، وعلى علامات خطواته ساروا من بعده، هكذا صعد النبي صلى الله عليه وسلم جبل النور ليمسَّه كلام منزل من الله “نور على نور” فكان محمدٌ نورًا، يسلك طريقه مُتلبسًا بكل مخلوق من لدن آدم حتى آخر نفْسِ بشري ترحل عن هذه الدنيا.
ألقى الحجيج ملابسهم، ودَّعوا أدرانهم الأرضية، وتحللوا من كل ما يُعطب النفس، هنا الروح تلامس الروح، ولا مكان لشرور الأجساد، يسقط خلال الرحلة عدد ليس بالقليل، يُودّعون الدنيا، ولم يبتل ريقهم بماء زمزم الطهور بعد، وهناك حيث الأرض غير الأرض تنام الأجساد مطمئنة في حمى الرحيم.
الرحلة تستمر، لكن نقطة الوصول هي نقطة العد التنازلي للمغادرة، هناك حيث الثواني تُعد، ما يمر ليس يعود إلا مع تكرار الرحلة وتجدد الشوق، لكن المعاودة تحتاج إلى عام آخر، ومشقة جديدة، تُشحذ النفوس لتحملها مرة أخرى.
“لبيك اللهم لبيك”
نداء له رحلته أيضًا، المُكلف بقطعها، كل شيء في ارتحال، ولأن غاية الحَج إدراك معنى تلك الرحلة الأبدية التي يقطعها بنو آدم في حيواتهم المختلفة عبر العصور، ألا حِلٌ لأرضي، تلك الدار التي لا تقرُّ فيها الأجساد إلا في قبور من تراب.
“لبيك لا شريك لك لبيك”
يصعد النداء من القلب لا من اللسان، منذ دهور وهذا النداء يتردد في تلك البقاع، على جبل عرفات حيث ابتداء انتهاء الرحلة، على الشاشات يبدو مشهد الحجيج كأنهم خارج سياق دوائر الكون، هناك ملايين أخرى تشاهد، وترقب، وتتمنى أن تُرى هناك.
تبدأ أصوات العربات في إعلان نفيرها وإصدار أصوات البهجة التي تُقل الوافدين مُكللين بالرحمات، تظل أغاني البهجة والاستقبال تتردد طيلة رحلة الوصول إلى بيت الحَاجِّ، لتواصل هناك رحلة أخرى من الابتهاج الذي يمتد لأيام دون انقطاع، يا لها من رحلة تبدأ بالأفراح وتنتهي بها، وما بين النقطتين أفراح أخرى تملأ صدور ضيوف الرحمن الذين عادوا من رحلتهم بنفوس غير النفوس التي ذهبوا بها.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا