مقالاتقضايا وجودية - مقالات

قصة “آيب” القاتل وحبيبته “جيل”

“كان (كانط) شخص يجادل أنه في عالم أخلاقي تمامًا، لا مجال فيه للكذب على الإطلاق، حتى إنّ أصغر كذبة من شأنها أن تنتهك أخلاقية ومثالية هذا العالم”

فماذا تفعل إن هجم بعض القتلة على منزلك يبحثون عن شخص ما يختبئ لديك؟ إنّ نظرية (كانط) التي تتبنى المثالية الأخلاقية تستدعي أن يرشدهم عن وجوده ومن ثم أن يسمح لهم بأن يرتكبوا عملُا لا أخلاقيًا أكبر بقتله. فهل هذا ما يجب أن يحدث؟

لا… هكذا كان يحدّث (آيب لوكاس) -مدرس الفلسفة بإحدى الجامعات الإنجليزية الصغيرة- طلابه في إحدى المحاضرات، لكن اعتقاده بضرورة الكذب في هذه الحالة لم يكن نتيجة رؤية أخلاقية بل كان ينبع من رؤيته بأنّ هناك اختلافًا بين عالم الهُراء الفلسفي -حسب تعبيره- من نظريات وأفكار وبين الحياة الواقعية، ومن ثَم فوجود تلك القيم والمُثل في الواقع هو من قبيل الخرافة التي لا ينبغي تصديقها أو إلزام النفس بها.

لماذا نعيش؟ ما الذي يجعل لحياتنا معنى؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل كان يمكن لرجل مثل (آيب)، ذلك الإنسان الذي تخلت عنه زوجته ومات أقرب أصدقائه في حربه العبثية في العراق والفاقد لأي معنى لحياته أن يعيش سعيدًا؟ هذا ما كان يبدو جليًا واضحًا على قسماته التي لا تحمل سوى ملامح الاكتئاب والعبوس وفقدان الشغف والرغبة في ممارسة أي شيء في الحياة، كما لا تحمل يده سوى زجاجة الخمر التي أدمن شرابها في كل وقت وحال حتى داخل الحرم الجامعي. فمثلما كانت النظرية الوحيدة التي يؤمن بها هي نظرية الاحتمالات العشوائية والصدفة؛ هكذا كانت حياته، فهي سلسلة من الأفعال والحوادث التي تصادف فقط أنه يفعلها، وليس لأنها تمثل لديه أدنى قيمة، حتى أنه لم يتردد في أن يتناول مسدسًا يحتوي على طلقة واحدة ويصوبه تجاه رأسه بعد إدارة مخزن الرصاص في محاولة لتجريب إحدى لعبات الحظ التي سمع عنها، ففي هذه اللعبة هناك احتمال واحد من ستة أن يموت، ولكن ماذا يهم إن حدث ذلك؟! وما هو الهدف الذي ينبغي أن يظل حيًا من أجله؟! إنما الأهم هو مخامرة ذلك الشعور بالنشوة الذي سيحمله معه الضغط على الزناد.

ثم تأتي (جيل) تلك الطالبة الرومانسية الحالمة والتي تقع في هوى (آيب) فبالرغم من أنها كانت تدرك أنه يملك روحًا ضائعة ويفتقد لأدنى حماس نحو الحياة فلا بهجة ولا سبب واضح للعيش، فقد جذبها إليه غموضه وألمه وحساسيته أو ربما حاولت مساعدته ولكنها لم تكن تعرف كيف أو أين السبيل إلى ذلك؟!

“لقد استسلمت، إنه مجرد هراء”

هكذا كانت إجابة (آيب) التي يصدم بها (جيل) كل مرة، بل إنه يرى أن جميع مؤلفاته التي قام بها لا تخدم العالم ولا تشكل فارقًا مثقال ذرة. فهل حقًا تعتبر الفلسفة مجرد ترهات فارغة ومجرد نظريات تُملأ بها الكتب ولا تملك لأن تقدم لنا سببًا وجيهًا للحياة ولا هدفًا للخلق؟!

ثم يأتى القدر لـ(آيب) على هيئة استماعه لأحد الحوارات بين مجموعة من الأشخاص يجلسون بجواره في أحد المقاهي، تلك المرأة المسكينة التي تعاني من زوجها الذي يصر على نقل حضانة أولاده إليه وحرمان أمهم منهم بعد طلاقهما، ثم أن المأساة لم تتوقف عند هذا الحد فهذا الزوج قد لجأ إلى قاضٍ فاسد يعينه في كل مرة على تأجيل القضية والتلاعب بالقوانين، كما أن الأم المسكينة أصبحت لا تملك مزيدًا من المال يمكنها من الإتيان بمحامٍ كفء أو الاستمرار في مواصلة رفع الدعاوى، كانت المرأة تبكي بحرقة وهي تروي حكايتها…

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“إنّه أمر غير عادل بالمرة”

قالتها صديقة المرأة في محاولة لمواساتها، في نفس تلك اللحظة التي كان عقل (آيب) قد توقف عند تلك الأمنية التي صرحت بها تلك المرأة “أتمنى أن يصاب هذا القاضى بالسرطان”، إنه لن يصاب بالسرطان فالتمني لا يُفلِح، إذا أرادته ميتًا فيجب أن تسعى لتحقيق ذلك بيديها..

هكذا استولت قصة تلك المرآة الضعيفة على عقل (آيب)، إنه يشعر بالشفقة تجاهها، كما أنه يدرك مدى فداحة ظلم ذلك القاضي ومن داخله أصبح يرى ضرورة وجيهة لتخليص العالم من شروره، فلماذا لا يقوم هو بذلك الفعل؟! بالتأكيد ستكون تلك هي الجريمة الكاملة ولن يعلم أي أحد بذلك فهو لا تربطه أي صلة بذلك القاضي ولا بأطراف القضية ولا يوجد لديه دافع لارتكاب الجريمة، سيقتل ذلك الرجل ويساعد تلك المرأة في محو عذاباتها.

كانت تلك هي اللحظة الفارقة التي غيرت مجرى حياة (آيب) بالكامل، فهل كانت نشوة الشعور بالخطر والتحدي المرافق للتخطيط لعملية القتل هو الدافع الذي حركه للقيام بمثل هذا الفعل؟ أم أنه الشعور المتأصل داخل وجدان النفس البشرية في كراهية الظلم الذي يدفع النفس دفعًا إلى السعي في رفعه وإحقاق العدل؟! لقد أصبح لأول مرة يرى لحياته غاية ومعنى، بل إنه أصبح متقبلًا بل عاشقًا لحريته باختياره لأفعاله، ولأول مرة ينام ملء جفنيه وهو ممتلئ بذلك الشعور بالراحة والاطمئنان الذي يجلبه الشعور بالعدالة، فماذا حدث لـ(آيب)؟! لقد قرر أن يتوقف عن التذمر وأن يبدأ معالجة الأمور بيديه، حتى لقد انعكس إحساسه بالبهجة على حياته المادية فأصبح لأول مرة يشتهي الطعام والشراب فيتذوق الطعم بتلذذ، لأول مرة يدرك مدى جمال الطبيعة من حوله حين يجلس متأملًا لها، أصبح يقرأ الكتب ويحب الشعر، لقد عاد له نشاطه وحماسه مع طلابه حتى إنه كان مستمتعًا برؤية ملامح الدهشة على وجوههم عندما أخبرهم في محاضرته التالية عن جدوى الفلسفة والنظريات الوجودية والتي لا بد ألا تتم دراستها بمعزل عن ارتباطها بالإنسان وبفائدتها التي تعود عليه بشكل مباشر في حياته..

يبدأ (آيب) في مراقبة القاضي لمعرفة أماكن تردده وروتينه اليومي وفي أثناء تلك الفترة كان كثيرًا ما يثير النقاش حول أمر هذا القاضي مع (جيل)، “أليس هذا العالم سيصبح مكانًا أفضل ولو بقدر ضئيل إذا لم يكن هذا القاضى يعيش فيه؟!”

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“لا أعتقد أن الأمر بهذه البساطة، ربما يكون هذا الرجل فعلا قاضيًا ظالمًا ولكنه قد يكون في نفس الوقت أبًا عطوفًا على أولاده” هكذا أجابت (جيل) بفطرة وتلقائية، هي تكره ظلم القاضي ولكنها لا تزال ترى في التخلص منه فكرة بغيضة ومنفرة. ثم من يملك العلم والإحاطة بكل العلل والأسباب وما فيه تحقيق العدالة للجميع؟!

يدبر (آيب) لجريمته وينفذها بالفعل عن طريق دس السم للقاضي، ولعدة أيام وأسابيع يظل (آيب) متتبعًا لنشرة الأخبار مطمئنًا إلى أنهم لم يفطنوا للسبب الحقيقي للوفاة ظنًا أنها بسبب نوبة قلبية، تُفاجأ (جيل) بالحدث وتتعجب مع (آيب) عن عجائب القدر الذي يختار هذا الرجل ليموت، ولكن ذلك القدر لا تتوقف مفاجآته، حيث تبدأ سلسلة من الأحداث التي تتجمع خيوطها وأطرافها لدى (جيل) مما يجعلها تشك في ارتكاب (آيب) للجريمة ومن ثم تقرر أن تواجهه لتفاجأ باعتراف (آيب) لها، إنه لا يعتريه أدنى بادرة للشك في صحة فعله أو ندم على ما ارتكب، بل إنه يرى أن ما فعله فعل أخلاقي ومبرر،  لقد أنقذ عائلة ولم يعاقب إلا من يستحق العقاب، أخبرها أن خدمته لهذه المرأة هي ما جعلت لحياته معنى.

“لا يمكن أن تبرر ذلك ببساطة، إنها جريمة قتل!

ليس لدي من الثقافة ما يجعلنى أرد على هذه الحجج العقلية، لا أستطيع مجادلتك، لقد علمتني أن انقاد وراء غريزتي وليس عليّ أن أفكر في ذلك، أشعر بأن هذا ليس جيدًا على الاطلاق”

هكذا صاغت (جيل) خلاصة الأمر في أروع مشاهد العمل، إنّ القتل بغير وجه حقّ هو ظلم بيّن يُدرَك قبحه بالعقل بداهةً ولا يحتاج لكثير نظر ودليل، لم تقتنع (جيل) بمبررات (آيب) بالرغم من حبها له ذلك أن تلك المبررات تتعارض مع الثوابت البديهية العقلية والأخلاقية بكل بساطة، لم تقع (جيل) في أزمة أخلاقية بين حبها لـ(آيب) وانتمائها للحقيقة وتمسكها بالعدالة فتطلب من (آيب) أن يسلم نفسه للسلطات، وعندما يرفض (آيب) ذلك تطلب منه الرحيل وإلا اضطرت للإبلاغ عنه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن المفاجآت لا تتوقف، لقد أعلنت الشرطة القبض على القاتل ضمن أحد المشتبه فيهم، عامل بسيط يواجه الآن عقوبة السجن المؤبد على جريمة لم يرتكبها! ويجد (آيب) نفسه أمام أزمة أخلاقية حقيقية، هل يترك إنسانًا بريئًا يعاقب بفعلته؟! أم يسلم نفسه؟! هل يتخلى (آيب) عن حريته التي بدأ يتنعم بها أخيرًا عندما بدأ يتذوق مباهج الحياة بعد أن كانت حياته فاقده للمعنى والمتعة؟! لقد انتصرت رغبته الغريزية في الحياة على مبدئه الأخلاقي، كان ذلك في اللحظة التي قرر فيها (آيب) التخلص من (جيل) ..

“إنّ جريمة القتل تفتح الباب أمام المزيد”

ولأن من سنن الحياة أن الباطل لا يمكن أن يستمر وأن الظالم لا بد أن ينال عقابه، هكذا تخبرنا نهاية هذا الفيلم عندما يقع (آيب) ميتًا بنفس الوسيلة التي دبرها للتخلص من (جيل) بل إن الكاتب يصرّ على أن تكون تلك النهاية بواسطة المصباح الذي أهداه (آيب) لـ(جيل) كمكافأة على إحدى لعب الحظ التي فاز فيها. فهل فعلا ما قتل (آيب) كان صدفة وحظًا أم كان مصيرًا محتومًا ؟!!

——–
“رجل غير عقلانى”؛ فيلم من إنتاج عام 2015 وتعود كتابته وإخراجه لوودى آلان المخرج والممثل الأمريكى الشهير والحاصل على ثلاث جوائز للأوسكار والذي اشتهرت غالبية أعماله التي أعدّت ضمن كلاسيكيات السينما الأمريكية بعمق مناقشتها لموضوعات الأدب والفلسفة وعلم النفس.

وفى هذا الفيلم استطاع آلان ببراعة أن يصيغ عملًا فنيًا بدقة مبدعة في التفاصيل عندما قام بطرح عدة قضايا فلسفية وأخلاقية يشعر أمامها المشاهد باستنفار ذهنه وعقله في محاولات للإجابة عن تلك الأسئلة.

هل من أهمية حقيقية للفلسفة أم إنها مجرد نظريات وأوهام؟

إننا كلنا متفلسفون بالفطرة، ذلك إن الفلسفة ما هي إلا علم السؤال والبحث عن الحقائق، ومن أهم تلك الحقائق هي حقيقة السعادة الإنسانية تلك التي ترتبط بمعرفة حقيقة الوجود والغاية منه، والتي تتلخص في معرفة من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ تلك الإجابات التي لا يمكن التحصل عليها سوى بطريق العقل المنضبط بقواعد التفكير السليم والمعتمد على أدوات المعرفة السليمة في الكشف عن الواقع ومن ثم معرفة الحسن والقبح وترتيب الفعل الأخلاقي، وهي التي تضمن عدم وقوع الإنسان في فخ العدمية عندما يفقد ارتباطه بالقيمة. فما هي القيمة الحقيقية التي ينبغي للإنسان أن يرتبط بها ويعيش من أجلها ؟!

إن الوقوع في فخ العدمية والعبثية لا يحدث إلا عندما يربط الإنسان سعادته بأشياء مادية وجزئية، ولما كانت من طبيعة المادة التغير والزوال فمن المنطقي أن يفقد الإنسان أية قيمة لحياته عندما يفقد تلك الأشياء وهي التي سوف يفقدها حتمًا، فلم يغفل الفيلم أن يذكر لنا كيف وصل (آيب) إلى هذه الحال عندما ربط سعادته بزوجته التي خانته وصديقه الذي فقده في أثناء حرب العراق، ولأن جوهر الإنسانية هي الروح لا الجسد، فالسعادة الحقيقية لا يمكن أن تكون في الارتباط بملذات الجسد المادية أو “المتعة” حسب تعبير الكاتب على لسان (آيب)، وإنما عندما يربط الإنسان نفسه بقيمة مجردة عليا ثابتة متجاوزة للمادة ومن ثم تصبح هي الطريق للسعادة الحقيقية التي لا تفنى ولا تزول، تلك هي قيمة العدالة التي فطن إليها (آيب) بتجربته الجزئية وعرفتها (جيل) بفطرتها وإن كان (آيب) قد فشل في تطبيقها، ذلك أن العدل هو مما يستحسنه العقل البديهي وبالتالي كان من الطبيعى أن تحث عليه الأديان المتوافقة مع صحيح العقل.

من يدرك جزئيات العدالة وكيفية تطبيقها؟ ومن يقوم على تنفيذها؟

سؤال فلسفى آخر يطرحه الكاتب من خلال العمل ليجعلنا نتساءل، فهل يمكن لنا نحن البشر محدودي العلم أن نقرر ذلك وفقًا لقواعدنا وشروطنا الخاصة كما فعل (آيب)؟! أم إن هذا يحتاج لمن يكون ملمًا بجميع بواطن الأمور، محيطًا بالأسباب والعلل، عالمًا بالحقوق، مدركًا لما فيه خير وصلاح هذا العالم بكل من فيه، ومن هو سوى الإله الخالق المحيط علمًا بخَلقه وما يمكن أن يحقق لهم النفع وما يكمن فيه الضرر؟!

من أجل هذا كانت فلسفة الشرائع التي جاءت لهداية البشر وإرشادهم إلى طريق سعادتهم، فبالعقل نستدل على حسن العدل وبالعقل نستدل على الدين الصحيح الموافق للعقل وبديهياته ومن ثم نستطيع الاعتماد على ما جاء به الشرع من تفاصيل وجزئيات لإرساء العدل والوصول إلى السعادة.

من أجل ذلك #بالعقل_نبدأ

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة