رائحة الطبيعة في زجاجة أنيقة! – كوكب اليابان عالم لوحده
كوكب اليابان
بدأ الموضوع بدعوة من الجامعة التي أدرس بها لحضور محاضرة لدكتور من اليابان متخصص في الهندسة وبالذات في هندسة المجسات والمجسات الدقيقة. تخصص هام لمن يهتم لا فقط بمجال الميكانيكا والأنظمة الإلكترونية الميكانيكية الدقيقة (Microelectromechanical Systems) ولكن أيضا نتيجة لكوننا في مختلف التخصصات نحتاج للقياس الدقيق فإن مثل هذه التخصصات لها مميزات خاصة تجعلها تستخدم خبراء وعلماء من تخصصات كثيرة (مجال متعدد التخصصات أو Multi disciplinary) وتنتج نتائج علمية عابرة للتخصصات (Trans disciplinary) وبالتالي تشد انتباه الكثير من المتخصصين في شتى مجالات العلوم التطبيقية.
خاصة وأن هذا الأستاذ قد بدأ مشوار حياته في الهندسة الميكانيكية ثم تطور نحو الـ MEMS ليصنع رقائق المجسات الدقيقة لمجال واسع من التطبيقات بما فيها التطبيقات الطبية والصحية. بل وتطرق في أبحاثه للجينات وطرق فصلها وتحليلها ودراستها. وفي الحقيقة إنه أكاديميا فذًا بمعنى الكلمة فهو يعتبر تجسيدًا واضح لمبدأ البحث العلمي العابر للتخصصات والذي يبدأ بتخصص ليخدم في تخصص آخر والذي يعتبر من أشد مجالات البحث العلمي ضراوة وصعوبة ومن أحدث نماذج البحث العلمي في عصرنا الحالي.
المحاضرة
بالطبع كنت متشوقا لحضور المحاضرة أيا كان الموضوع، فبالتأكيد مع رجل بهذا الزخم العلمي سيتطرق الحديث لشيء يمسني قريبا أو بعيدا فأستفيد. هذا دفعني للحضور، لكن أبدا لم أتوقع أن يتطرق الأستاذ للفلسفة أو أن تتسبب تلك المحاضرة في استثارة الجدل والنقاش الفلسفي لدي لدرجة أن أكتب مقالا عن الموضوع.
ففي العادة كلام الأكاديميين التطبيقيين يبتعد عن الفلسفة والمجردات؛ فهم منشغلون بالذرة والمادة بدرجة انسحاقية عالية لا تسمح لهم بالنظر لأعلى إلا في الحالات النادرة كباسكال أو كبلانك مثلا. في غير ذلك تجدهم في الغالب يتجهون من المادة وإلى المادة. ولست هنا لمناقشة إن كان هذا صحيحًا أم خاطئًا، بل أنا هنا لأكلمكم عن أحداث هذه المحاضرة التي خرجت عن المألوف. وكيف أن الهندسة تدرجت بالرجل حتى وصل لأن يناقش مبادئ أقل ما توصف بها أنها نفسية (متعلقة بعلم النفس) وهذا هو ما كان صادما.
بدأ الرجل محاضرته بالكلام عن عمله بالمجسات الإلكترونية الميكانيكية وإمكانياتها في قياس نشاط الأعضاء وإعطاء مؤشرات لصحة الجسد. وتم إخضاع الكثير من سكان اليابان لهذه الاختبارات وتكوين قاعدة بيانات ضخمة للحالة الصحية لليابانيين. ومن خلال ملفك الشخصي والذي يتم تحديثه دائما من خلال المجسات الدقيقة (في حجم حبة الأرز أو أصغر) ومن خلال سجلك الطبي ينصحك جهاز اتصال شخصي لك بماذا يجب أن تأكل وماذا ينبغي تجنب أكله؟ وغيرها من النصائح التي تحافظ بها على الصحة العامة وتطورها (Health development centers).
المحاضرة 2
وفي الجزء الثاني من المحاضرة تكلم عن استخدام مجسات أخرى من اختراعه لقياس نشاط المخ وإشاراته. ثم تطرق لدراسة أجراها أو ربما مجموعة دراسات مع معهد حديث التخصص يبحث في تطوير الصحة في مقاطعة كوبي (Kobe) اليابان . هذا المعهد قرر قياس رد فعل «المخ» من إشارات وتفاعلات باستخدام مجسات من اختراع هذا الأستاذ القدير، وذلك في حالات مختلفة وأيضا بعد تناول وجبات مختلفة أكثرها صحي كالشاي الأخضر أو بعد الخضروات المعينة أو وجبات السوشي المغذية…
بل وأيضا تفاعلات العقل للروائح الجميلة كرائحة الأزهار والورود والطبيعة والغابات والأشجار ما أسماه في المحاضرة بالروائح الخضراء (green odor). وأيضا تفاعلات المخ عند رؤية صورة للمحبوب أو الأطفال أو حتى الأحفاد… لقد دربوا رد فعل المخ لكل ما يظنون أنه يجعلك سعيدا. وكونوا من هذه البيانات جدولًا زمنيًا للفترات الزمنية المثالية لتناول أي طعام أو شراب من تلك الأشياء أو متى يحبذ أن تذهب لاستنشاق رائحة الطبيعة أو لرؤية أحفادك.
وذلك عن طريق تحديد الفترات الزمنية في اليوم الذي تؤدي فيه هذه النشاطات لأشد تفاعل في موجات المخ. وموجات المخ الأقوى هنا تدل على الوصول لأقصى درجة من السعادة وأفضل علاج لحالات التوتر (Fatigue) التي يتعرض لها مواطن اليابان .
ما شد انتباهي هو الجزء الثالث من المحاضرة ولا شك أن الكثيرين من جماعة «كوكب اليابان » قد بدأوا بالفعل يتيهون في أحلام يقظتهم عن هذا «الكوكب»! أيا كان تصورهم عن هذا المكان فبصراحة لم أنجذب لتخيلاتهم كما يحدث مع كثيرين؛ ربما لأن لب عملي هو البحث العلمي التطبيقي ولذلك لا أنخدع بسهولة بالنتائج الفخمة التي يتم عرضها علينا في صور «الميديا» المبهجة والتي تستطيع أن تهول دائما من أي حدث مهما كان صغيرا أو أن تقزم وتهمش العظيم الجلل! المهم انتقلنا مع الأستاذ المبجل للجزء الثالث وهنا كانت الصدمة (لي على الأقل). يشرح هنا سيادته الجانب المادي من المشروع وهو تحويل النتائج العلمية لمنتج تجاري.
رائحة الطبيعة
وكان أحد هذه المنتجات هو… سأدعك تخمن هنا… «Green odor». قامت أحد الشركات في اليابان بتعبئة «رائحة الطبيعة» في «زجاجة عطر»… هل تشعر بالتوتر؟ لا تقلق سيدي… لا تقلقي سيدتي… إليك المنتج الجديد… رائحة الطبيعة في زجاجة أنيقة… لماذا تنزل للطبيعة لتشم الرائحة الزكية ليذهب التوتر… ستضيع دقائق ثمينة من الإنتاج والعمل… فقط استخدم «رائحة الطبيعة»… زجاجة أنيقة لكل الأذواق… غابة استوائية… حدائق مثمرة… حدائق أزهار… اختر ما يناسبك…
طبعا هذا الكلام تهكمي وأتصور فيه الإعلان الذي سيعلن عن هذا «المنتج». وليس هذا فقط بل تم تحويل كل النتائج العلمية من وجبات ومشروبات وحتى أنشطة لمنتجات استهلاكية تحت دعوى علاج التوتر وتطوير الصحة العامة. بصراحة لم يقبل عقلي بما تم عرضه… كانت صدمة شديدة في الحقيقة… إنه إعادة تعبئة لنفس المنتجات التي يتمتع بها مواطنو اليابان ربما بالمجان (رائحة الطبيعة!) أو ربما بثمن مقبول (وجبات صحية وشاي أخضر!)
ولكن الآن مع نصائح كيف ومتى تأخذها لتحافظ على نشاطك وتمنع التوتر. هل ما تم عرضه علينا هو محاولة لتكميم (تحويل كمي) للسعادة…أو السعادة في زجاجة أو في قرص أو في وجبة؟!… هل حدث ما كنا نمزح بشأنه وتم اختزال السعادة في البعد المادي فقط فعلا؟!
أنهى الرجل المحاضرة بنصائح حوا أهمية البحث في «تطوير الصحة العامة» وكيف أن تحويل نتائج البحث العلمي لمنتج تجاري هو أمر هام جدا ومركب ضروري لنجاح الباحث العلمي ثم أنهى محاضرته بنصيحة للمصريين بأن نفتح مركزًا مثل اليابان لـ «تطوير الصحة ومعالجة التوتر». وانتهت المحاضرة بالتصفيق كالعادة.
عندها فتح الباب للأسئلة… توجهت بالسؤال الأول…
الحقائق أم العوارض السطحية ؟
أريد أن أسأل عن المنتجات التي عرضتموها والمنتجة في اليابان بناءً على قياسكم لنشاط المخ والنصائح التي قدمتموها لتناول الوجبات والقيام بأنشطة معينة في أوقات معينة وخاصة زجاجة عطر الطبيعة… هل ترون أن هذه الأنشطة في مجملها عالجت أسباب أزمة التوتر الحقيقية أم أنها عالجت العوارض فقط؟ هل السبب في تقليل التوتر هو في جعل موجات المخ بشكل معين أم أن تلك الموجات هي نتيجة لحالة نفسية معينة؟ وهل مجرد إنتاج هذه الموجات يعالج سبب التوتر؟
جاء الرد: إن ما نحال تقديمه هو تسخير العلوم التطبيقية بطريقة جديدة تخدم الإنسان بطريقة مختلفة… بالأمس كنا نخلق التكنولوجيا التي تقوم بالعمل بدلا من الإنسان ولكن اليوم نقدم تكنولوجيا تعالج توتر الإنسان وتعبه. إن هذا هو تطور في مجال البحث العلمي، وإنى أرى أن مستقبل البحث العلمي في العقود القادمة سيتجه أكثر نحو مواضيع تطوير الصحة ومعالجة الإنسان وتقليل توتره بدلا من صناعة المزيد من التكنولوجيا.
بصراحة لم أجد في الإجابة كل ما أردته… فسألته سؤالًا استطراديا…
سؤال استطرادي
إنني معجب بواقع كون العلم التطبيقي يبحث في طريقة تطوير صحة الإنسان وحالته النفسية… لكن أسأل هنا سؤالًا… لقد كان الإنسان منذ 100 عام يملك أقل بكثير مما لدينا ولكننا اليوم على الرغم من كل ما نمتلكه، لسنا سعداء مثلما كان الإنسان سعيدا منذ 100 عام… ألا يجب أن ننظر للسعادة بنظرة مختلفة عن النظرة المادية؟…
إننا أنتجنا العديد من الاختراعات على مدى قرون طويلة ونحن نعد الإنسانية أنها ستحقق لهم السعادة ولكن بصراحة بالنظر للعالم من حولنا نجد أن معدل البؤس والتعاسة يزداد؟… ألم يتضح أنه ربما الإجابة لا تكون في المادة والبحث العلمي المادي وأنه ربما تكون في بعد آخر؟…ألم يكفنا البحث عن السعادة بتلك الطريقة؟
أجاب الرجل متحمسا وقال: إن البحث العلمي بالفعل قاسٍ ومادي… فنحن نطور الصلب والقاسي فقط ولا نهتم بالرقيق والحساس؛ ولذلك فعلا يجب أن نغير طريقتنا في البحث عن إجابة لسؤال رخاء الإنسان وتقدمه صحيا ورفاهته… إن العلم تدريجيا يفقد اهتمامه بالجانب المادي القاسي ويتجه أكثر نحو الجانب الرقيق من الحياة
سؤالي الأخير
سألته سؤالا أخيرًا خاصة وأنني شعرت أنني قد أضجرته قليلا…
سيدي إنني آسف لو أطلت عليك بالأسئلة، ولكنك ربما لأن الموضوع الذي تطرحه شيق وشديد الأهمية… سؤالي الأخير: لقد أقررت أن على المجتمع العلمي أن يغير الأسلوب الذي يواجه به سؤالًا رفاهية الإنسان وراحته، ولكنك لم توضح لنا ما هي الطريقة التي يجب أن نتبناها إذا تغيرنا، إن الغريب في محاضرة سيادتكم اليوم هو أن المفاهيم التي تعرضتم لها اليوم هي مفاهيم لا مادية، لا يمكننا القول بأن السعادة والراحة والتوتر والشد العصبي هي مفاهيم مادية (ليست كالحرارة والكهرباء والقوة والسرعة وغيرها) بل هي مفاهيم مجردة (Transcendental)… إننا عند ملاحظة الغرب والنظرة المادية الغربية نلاحظ إصرارهم على تبني النظرة المادية والتكميمية في كل المجالات حتى اللامادي منها…
هل ترى أن الغرب بـ«ليبراليته» المزعومة سيسمح بمثل هذا التوجه الجديد الذي يخالف النظرة المادية المتعصبة؟… إننا نحن حضارات الشرق نجد أننا ذاتيا نتكلم عن العنصر اللامادي في الحياة والإنسان، ونشترك في ذلك جميعنا… هنود يابانيين وصينيين ومصريين… كل حضارات الشرق لديها مكون معنوي مجرد ذاتي في فلسفتها الوجودية، ألا ترى أننا من أجل تحقيق نتائج أفضل في مسألة السعادة والتوتر وخلافه من الأمور النفسية يجب أن نتبنى طريقة مختلفة للتحليل؟ وما هي الطريقة التي تقترحها لنتبناها؟
على كل منا أن يجد طريقه !
هنا لا أعرف لماذا؟ ولكن ظهر على وجهه ربما علامات مبهمة تدل ربما على الامتعاض… ربما على عدم توقع النقاش لا أعرف… أهل اليابان عامة صعب قراءة ملامح وجوههم فهم لا يظهرون كل شيء على صفحة وجوههم مثلنا نحن العرب… المهم أجابني بإجابة مقتضبة:
على كل منا أن يجد طريقه…
وأنهى المناقشة ببسمة خفيفة… وصفق له زملائي إجلالا له…
لم أفكر وأنا عائد إلى المنزل إلا في أن أسرع بكتابة ملخص المحاضرة في مقال لكم لأشاركم تلك التجربة القوية وربما لأضيء شموع جديدة من الفكر في العقول المتأملة والباحثة عن معاني الحقيقة والحكمة…
المحاضرة كانت بتاريخ 28/12/2016 للأستاذ الدكتور هيديتوشي كوتيرا.
اقرأ أيضا:
الحق سينتصر رغم انتشار الباطل – وسنن التاريخ لا تدعو لليأس
من العجب إلى الحب.. كيف نطهر قلوبنا من الغرور بالحب ؟
فراغ القلب.. كيف يواجه الصديقان مشاكل الحياة ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.