دين العقل
كأى ثورة قامت ، جاءت ثورة يناير لتثير موجة عارمة هزت السفن المجتمعية ، التى لم يتحمل بعضها قوة الموجة لتنهار أمامها وتنهدم سريعاً ، كأسطورة الحاكم الخالد والشرطة المسيطرة على مقاليد الأمور والشعب الخانع الخاضع المستسلم لظلم طاغية تلو الآخر ، بينما رجت ثوابت أخرى رجاً عنيفاً ليتغير الكثير منها ، حتى لم تعد تجد من ملامحها القديمة سوى أثر باهت يبقى على صلتها الهشة بصورتها الأولى ، وكعادة أى ثورة كان لابد أن ينفجر بركان الأفكار الخامد فى ظل حكم المستبد ، الذى يئد أى ظلال لأشباح فكرة قد تهدد عرشه ، كما يقول عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه الأشهر (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) : “يسعى العلماء فى نشر العلم ، ويجتهد الاستبداد فى اطفاء نوره” لذا لم يكن من المستغرب بعد تلك الثورة ، التى أزالت كل حائل يحول دون التغيير الذى طال كل فكرة فى حياتنا مهما صغرت، أن نرى كل منا يدلو بدلوه فيما قد ظن يوماً أنه لن يتطرق إليه ولو بالشك.
فلم يعد منا من يلتصق بالحائط بحثاً عن الأمان والبعد عن اثارة المشاكل ، وبخاصة مع طبيعة تلك الثورة التى عابها غياب التنظير المناسب السابق لها ، والقيادة الحكيمة الواعية أو حتى وحدة الهدف ووضوح العدو ، ليحتاج كل منا أن يبحث حوله عن مسار يفضى إلى تلك الصورة الضبابية عن الحياة التى يأملها ومن أجلها ثار ، ليكون من الطبيعى أن تشهد الشهور الأولى بحثاً محموماً فى الوضع السياسى ودروبه ، لتظهر التيارات الفكرية المختلفة التى بدأت تنسج خيوطها الهشة داخل كل منا ، تلك الخيوط التى لم تلبث أن انهارت مع فشل كل تيار فى تحقيق تطلعات أفراده ، لتتسع دائرة الشك شيئاً فشيئاً حتى لم يعد مستهجناً -أو على الأقل لم يعد كالسابق- أن نرى من يشكك فى الأديان أو فى وجود الإله ، وبخاصة مع الفشل المتوالى والتراجع المزرى الذى أصاب الثورة ، حتى لنكاد نكون على أعتاب استعادة النظام القديم بجميع أركانه ، وسط ترحيب وتهليل من الجميع.
فمع انهيار الآمال شيئاً فشيئاً ، وسقوط الأحلام الواحدة تلو الأخرى ، وبخاصة بعد تساقط الدماء بدأ اليأس يدب فى أوصال الجميع ، لينطلق من ذلك اليأس البعض فى رفض كل ما يوحى بأن ما يحدث فى هذا الكون لحكمة ، ولم تلبث تلك النبرة أن تصاعدت فى رفض واضح للمجتمع بكل ما فيه ، حتى استقرت أخيراً على رفض وجود إله خالق حكيم عادل لهذا الكون ، ومن هنا حدثت الكارثة والمقصود بالكارثة هنا ليس رفض وجود الله أو القبول به ، ولكن تلك الطريقة التصاعدية فى الاستدلال والتى لا تكتفى فقط باعطاء نتائج مضللة ، ولكنها كثيراً ما تجد الراحة فى اجابة “لا أعلم” وكأنها فى ذاتها اجابة ، لا دافع للبحث والاستقصاء فى تلك القضية التى تمثل الضلع الأهم فى حياة الإنسان من حيث هو إنسان ، بما يعنيه ذلك من امتلاكه للناطقية القادرة على سبر أغوار العالم وما وراءه ، فى غمار سعيه المحموم فى هذا العالم.
فمع تلك الطريقة التصاعدية التى نتهجتها الأغلبية ، وخاصة مع غياب المنظومة العلمية والنخب الثقافية القادرة على ارساء تعاليم واضحة لمنهج بحثى سليم ، لم يعد من الغريب أن تجد من توصل مثلاً لعدم جدوى الصلاة مع فشل الجماعة التى تصلى سياسياً!!! أو رفض الديمقراطية مثلاً لإنها أتت برئيس لا يرقى لأن يكون رئيساً لمحطة وقود فى منطقة نائية غير مأهولة!!! بل طال الأمر ما هو أكبر من ذلك لأسباب أوهى ، مما يوحى بما نعانيه من جهل بتلك المفاهيم الأساسية وعلاقتها بالحياة وتفصيلاتها ، فى فوضى فكرية تنتج رؤى مشوهة سريعة التكوين ، تزيد الهوة بيننا وبين أى أمل فى النجاح.
ليطرح ذلك التساؤل نفسه وبقوة ما معنى الدين؟!! وما جدواه؟!! وهل هو من الأهمية بمكان كى نفنى وقتنا فى سبيل البحث عنه واعتناقه؟!! وكيف السبيل للوصول إليه؟!! وللسؤال الأخير بالذات الأهمية القصوى حيث تجد الكثير يسارع مجيباً ب(العقل) ، دون أى توضيح عن أى عقل يتحدث ، ليصبح معتاداً أن ترى ذلك الخلط بين الذوق والاستحسان والهوى ، وبين العقل بما له من ميزان واضح وقوانين تحكمه فارضة عليه الوصول للحقيقة ولا شىء سواها ، بدءاً من البحث بشكل منهجى انطلاقاً من بديهيات واضحة ، نزولاً إلى إلى العمل بها فى تفاصيل حياتنا وجزئياتها.
وقبل أن نخوض فى محاولة تعريف الدين يجب أن نتوقف قليلاً ، أمام مقولة الإمام على بن أبى طالب -رضوان الله عليه-: “أول الدين معرفته” تلك المقولة التى لفتت انتباهى وبشدة ، لما نمارسه من ظلم فى حق أنفسنا ، برفض أى معتقد بناءاً على مواقف جزئية فى حماقة غريبة ، دون أى محاولة جادة لفهم ذلك الدين أو المعتقد ، ولو من باب انتقاده واثبات معتقداتنا الخاصة التى بها نتحرك ، حيث أن الدين هو مجموعة الاعتقادات النظرية (العقيدة) ، والشعائر والسلوكيات العملية (الشريعة) ، المرتبطة بهذا الاعتقاد ، ومن هنا ندرك جدوى الدين -حتى وإن كان ديننا هو رفض الدين- الذى به نفعل وننفعل مع كل فكرة وكل تصرف.
ليصبح من ذلك التعريف لزاماً علينا الشروع -بما يمثله الدين كحجر الأساس الذى عليه تبنى حياتنا ومنه تنطلق أفعالنا- فى بحث حقيقى بعيداً عن تلك البحوث الساذجة البائسة ، التى تنطلق من كون المنتمى لفكرة ما ، هو عنوانها وجميع قضاياها!!! وليكون البحث منطلقاً من القضايا الرئيسية ، التى تمثل العقيدة بدءاً من وجود الخالق من عدمه ، فصفاته ووجوب وجود الرسالة انتهاءاً بصفات المرسل وغاية الخلق ، وموضع النص (الرسالة) من حياتنا ، وهدفها فى ظل كل ما سبق ، فى بحث جاد يكون فيه البرهان وسيلته ، والعقل المجرد المنزه عن كل هوى حاكمه ، واليقين بالحق غايته