إصداراتمقالات

دولة العدل (1): الثواب والعقاب

الكلام هنا يركز على تصحيح مفهوم خاطئ لدى الكثير من الرومانسيين وكشف مغالطة كبيرة يستخدمها الكثير من المضلين ليبعدوا الناس عن الحق. إن الواقع الاجتماعي للإنسان هو واقع التنافس والتزاحم، فالندرة في الموارد والوقت مع الكثرة في العدد والطلب يفرض هذا الواقع على الإنسان. ومن المنطقي أن الشرائع الإلهية والأسس الفلسفية لا تأتي لتغير في طبيعة الأشياء ولكن لتوضح كيفية التعامل مع الأشياء بطبيعتها. وهذا هو الحال في فلسفة دولة العدل أو المدينة الفاضلة أو الحكومة العقلية سمها ما شئت.

ولذلك فالتأسيس العقلي للمدينة يضع في الحسبان الطبيعة التنافسية للإنسان ولذلك فهو ينظم القوانين والقواعد الضرورية لتحجيم هذا التنافس والتزاحم بما يضمن المنفعة الجماعية أو المصلحة العليا. وبإيجاز فإن أي حشد أو اجتماع لا بد له من نظام ومنظم ومنظومة ثواب وعقاب للتأكد من تطبيق النظام. تعتبر هذه المكونات الثلاثة دعامة رئيسية في أي نظام أو اجتماع ناجح. وهنا تستخدم المغالطة وبكثرة فيربط بين النظام الفاسد والمحاكم والحبوسات والتحقيق والجزاء والعقاب كتلازم. بينما يربط في أذهان الناس بين العدل والحرية المطلقة بلا قيد أو شرط في جانب آخر. هذه الثنائية الفكرية تولد عند الناس نفور ولفظ لأي نظام مهما كان تأسيسه الفكري سليم فقط لأنه شاء أم أبى فإنه يجب أن يمتلك تلك المكونات الثلاثة إذا أراد أن يحقق أي نجاح. طبعا ينفخ في النار بعض المنتفعين الانتهازيين الذين يفضلون النظام الفاسد بغض النظر عن امتلاكه لنفس الأدوات على نظام آخر إصلاحي لعلمهم جيدا أن المهم هو أين توجه الضربات. فمنظومة الثواب والعقاب التي لا تثيب إلا من يعزف على نفس الأوتار ولا تعاقب إلا المخالف للرأي القوي هي منظومة تبقى على الفساد في المجتمع بل وتعمل على تنميته.

لي في ذلك تشبيه يقرب الصورة. قد لا تستطيع تخيل الجسد بلا جهاز مناعة. هذا الجهاز المناعي هو بمثابة جهاز الثواب والعقاب في المجتمع الكبير. فكيف لا تستطيع تخيل جسد بلا مناعة بينما تتوقع في دولة العدل ألا يكون لها جهاز مناعة يحميها من الخطر الداخلي والخارجي؟ أجهزة المناعة السليمة تدمر وتسيطر على حجم الخلايا الفاسدة المدمرة والمسرطنة والتي إذا لم يسيطر عليها ستفتك بالجسد حتما. أما لو أن جهاز المناعة أصيب بالخلل فإنه سيهاجم الخلايا السليمة التي لم ترتكب ذنبا وتحمي الخلايا السرطانية. في الحالتين لديك جهاز مناعة ولكن الوسيلة ليست كافية للتأكد من النجاح فلا بد من أخذ الغاية في الحسبان أيضا. هنا نجد نظام مناعة يقظ يحافظ على صحة البدن وهنا نجد نظام مناعة عميل للبكتيريا والأمراض يعمل لمصلحة من يفسد الجسد.

طيب إذا من هنا يتضح لنا أن التفرقة بين الظلم والعدل فقط بغياب أو وجود جهاز المناعة أو الثواب والعقاب هو غير صحيح. وأن الحكم على العدل بأنه ليتحقق يجب ألا يمتلك هذا الجهاز المهم والحيوي هو حكم على العدل بالفشل وهو حكم مغرض عار من الصحة والعقل. لكن المقسم بين النظام العادل والنظام غير العادل هو كيفية توجيه هذا الجهاز. فالتوجيه السليم نحو مراكز العطب والخلل والفساد في الجسد يؤدي لحياة سليمة ولأداء اجتماعي متفوق ومتطور. نتذكر هنا قول الله عز وجل “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”. بينما التوجيه الخاطئ للجهاز يؤدي حتما لهلاك المجتمع وانزلاقه أكثر في فجوة الاستبداد والاحتلال والفشل وهنا نتذكر الحديث الشريف الذي يقول “إنما أهلك الأمم من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”. وهنا التذكرة بالحديث لاستخراج العبرة والتحذير، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ينذرنا بالهلاك نتيجة للتقصير في التوجيه السليم لجهاز الثواب والعقاب. والهلاك هنا ليس نتيجة إعجازية بل هي مجرد حتمية عقلية. فالطبيب عندما يحذر مريضه من أن التدخين يتلف الجسد هو لا يتنبأ بالبلورة والنجوم ولكن لأن العلم الحاصل عنده يعطيه بعض الاستلزامات العقلية كالقضية الشرطية (إن تذاكر تنجح).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتضح لنا من السرد السابق ضرورة الثواب والعقاب في أي مجتمع. وفساد الربط بين النظام الفاسد وجهاز الثواب والعقاب القوي وأيضا فساد تخيل دول العدل بلا أي رقابة أو نظام ثواب وعقاب. لأن هذا النظام من ذاتيات المجتمع الناجح. وأخيرا أن الفرق بين العدل والظلم هو في كيفية توجيه نظام الثواب والعقاب. وأن التوجيه السليم هو حياة للمجتمع بينما التوجيه الخاطئ هلاك مؤكد.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة