(أ) إن حتمية جمع الخطاب بين العام القيمي والخاص الذاتي تجعل من فعل بناء الخطاب –من قبل صانعه– موضع اختبار لقوى الإنسان وملكاته وما يقف وراءها من أخلاق، لا مجال انتصار للذات وتصوراتها، إذ إن ثمة إغراءً كبيرًا لغلبة الخاص –من تصورات ورؤى خاصة بالذات– على العام –الذي هو موضوع الخطاب وما له من قيم ومعانٍ– في أمر الخطاب، فإلى أيِّهما سيكون الإنسان أوفى؟ أخلاقه أم ذاته؟!
(ب) وهو ما يعني أن ازدواجية الخطاب الإنساني، أي جمعه بين العام والخاص، ليست تهمةً تُوجه للخطاب، أو احتمالًا ممكنًا ينفيه صانعُ الخطاب ابتداءً عن خطابه، بقدر ما هو معطى موجود لا يمكن دفعُه، أو اختبار معقود واجبٌ حذرُه، ينطلق الإنسان منه في بنائه لخطابه.
(ج) يجب على متلقي الخطاب ألّا تستغرقه واجهةُ الخطاب القيمية إبهارًا وإعجابًا دون أن يضع يدَه على خصوصية صاحبه، التي نبّهتُ إلى أنّ صُنّاعَ الخطابات يتفقون على ضرورة إخفائها، ثم يتفاوتون بعد ذلك في قدرتهم على نجاح هذا الإخفاء.
دور القيم في الخطاب
الثاني: إن ما يُلزمنا بإعطاء الأولوية لطريقة تنظيم القيم على مجرد حضورها، هو أن القيم والمعاني مطلقة، عُرضةٌ أن تغدوَا –ببريقهما الجذّاب وعموميتهما المُفرطة في الخطابات– ذريعةً لغيرهما من أمور خاصة، إذ إننا غالبًا ما نكتشف أن الخطابات التي تتمتع –على مستوى واجهتها النظرية– بمسحة قيمية، تكون –على مستوى تفاصيلها العملية– ملغومة بممارسات غير قيمية وأهواء فردية.
ازدواجية المعايير
النماذج كثيرة والأمثلة صارخة على أن عالم القيم ودعاتها ليس عالمًا مثاليًا، بل إنه عالم مليء بالفتك والنهش والاغتيال المعنوي، وإلا فبِمَ تفسر أن تجد أستاذًا جامعيًا ملأ الدنيا مثاليةً وادّعاءاتٍ، لا يرى في أهل العلم أحدًا أهلًا للتقدير إلا نفسه،
سالبًا أصحابَ تخصصه كلَّ مجهوداتهم التي قدّموها، وهذا ثانٍ يستخدم في تعبيره عما يقع في ساحة العلم، ألفاظ: الحرب، والمعركة، والكسر، ويفكر بعقلية الضربة القاضية، وغيرها من ألفاظ تنم عن منطق تفكير وحشي ووعي غير أخلاقي.
هذا مثقف ثالث طالما تغنّى بالكرامة والإنسانية، ينظر إلى مثقف آخر قد أخذ جائزة نوبل على أنه أفّاك، لا لشيء سوى أنه لا يتطابق معه في مواقفه وتصوراته السياسية.
هذا شيخ رابع طالما تشدّق بحب الحق سبحانه وتعالى، ما إن يأخذ في الحديث عن العدل ونقيضه ويشرع في سرد نصوصه الدينية التي تخدم هذا الموضوع القيّم، حتى يدع الموضوع والنصوص جانبًا
ويتخذ من خصومه السياسيين مادةً لحديثه مُسقطًا عليهم النصوص الشرعية، وفي الظاهر –أمام جمهوره ونفسه– هو يخدم موضوعه بالتمثيل على افتقاد العدل والوقوع في الظلم، ولكنه –في العمق والحقيقة– يُنكِّل بخصومه ويُنفِّس عن ذاته المكبوتة إزاءهم.
صانع الخطاب بين الحياد والتحيز
إن لم يكن كل ذلك ناجعًا، فليكن القتل بالصمت سبيلًا لإخفاء حق لا يقوى هؤلاء على دفعه بالبينة والدليل، على طريقة “لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ”.
كلها صور مختلفة لحقيقة واحدة مفادها: أن الرغبة في الانتصار للذات أكبر وأهم من الرغبة للانتصار للحق، وهو ما يعني أن الاختلاف داخل حقل القيم والمعاني ليس خالصًا لوجه العلم والحقيقة، وإنما تتدّخل فيه الذات بشروطها التي تَشْرطها ورغباتها وحوافزها الداخلية التي تُحرّكها.
لكن لا يُنفّس عن هذه الرغبات المكبوتة جهارًا نهارًا، ولكن عن طريق تقطيرها في ثوب الفضيلة القشيب الممزوج بلغة العلم والحياد، ليغطي صانع الخطاب بذلك كلِّه فُجرَها، ويُمرّر سُمَّها.
النقطة التي تجمع كل هؤلاء هي أنهم يمارسون الفجر والتوحش فعلًا مستورًا ومنطقًا مضمرًا، تحت دعاوى مناهضة الشر والجهل قولًا صريحًا ومنطوقًا ظاهرًا، فيا للعجب!
الاختلاف في عالم القيم
نخلص من ذلك إلى أن جانب التنظيم الخاص لقيم موضوع الخطاب وشكل حضور معانيه، أهم من جانب المضمون العام والقيم المجردة التي يتألف منها موضوع الخطاب نفسه، إذ إن عنف الخطابات لا ينكشف على مستوى واجهتها القيمية سواء أكانت دينية أم إنسانية أم علمية، ولكنه يُفتضح على مستوى شكل حضور هذه القيم وطريقة تنظيمها، والموقف منها.
لذلك كانت القيم العامة دومًا ليست موضوع اختلاف بين الناس، ولكنها حينما تُترجم إلى وقائع حياتية، وتتجسد في أفعال وأقوال يقع التطاحن والاقتتال، وسر ذلك أن كل واحد يريد أن يفرض قائمة أولوياته القيمية = موقفه من القيم،
وليس لأن هذا يدافع عن القيمة وذاك يرفضها، فالاختلاف في عالم القيم لا يدور بين القبول والرفض، ولكنه يدور بين الأَوْلى فالأَوْلى.
القادم هو عرض النموذج التحليلي المقترح لكشف تصارع الخطابات تحت غطاء ثوبها القيمي.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا