لقطة نراها بشكل متكرر في الأفلام التي تتناول فترة ما قبل الحرب الأهلية في أمريكا، العاملون بالنخاسة يجلبون عبيدا سود البشرة من أفريقيا ليعملوا في مزارع وأملاك الرجل الأبيض الراقي، نقل في السفن عبر المحيطات في ظروف بشعة وغير آدمية، إلقاء ما “نفق” منهم لتبتلعه طيات البحر، ولا عجب؛ فقد كان الاعتقاد السائد أن الإنسان الأبيض هو السلالة الأكثر تطورا من البشر، والباقي دونه، مجرّد حيوانات أخرى، له الحق “الطبيعي” في التسلّط عليها.
سلوك آخر معروف تاريخيا كانت تقوم به الدول والإمبراطوريات العظمى، بأن تذل من تتسلط عليهم وتحرمهم من القدرة على النهوض لمنافستها يوما ما، باستلاب الموارد من بلادهم، وأخذ من صلح من أبناء المغلوبين عنوة ليعمل لصالح الغالبين. فالشاب مفتول العضلات يؤخذ للخدمة في الجيش، والصانع الماهر يرسل للعاصمة حيث تُصقل موهبته وتنقل لصانعين أخر في خدمة الإمبراطورية، وهكذا. بالطبع فإنه من الغني عن الذكر أن أيا من هؤلاء إذا لم يلتحق بالمنظومة المهيمنة فإنه لن يذهب بعيدا في نطاق تخصصه، الشاب القوي سيقضي حياته دون تدريب عسكري متقدم ودون أن يخوص معارك “ملحمية”، الصانع سيتعلم ببطء، لن تتاح له الآلات المتطورة والموارد الثمينة، هذه المهارة سيكون أمامها طريق بالغ الصعوبة لتشقه لمرحلة التميّز، إن وُجدت العزيمة. أما إذا كانت الرغبة بالتنكيل أقوى عند الغالب فحينئذ قد يقوم باستخدام بديل آخر: التضييق على هؤلاء المتميزين أو حرمانهم من ميزتهم… إلخ.
لكن هذا سبب مشكلتين للمتسلّط: مشكلة أخلاقية، “إن” كان يدّعي الرقي والدفاع عن القيم، فهو يجد أن وظيفة “النخاسة” والفظائع المستخدمة في إقامتها يصعب أن تعتبر أخلاقية، ويصعب أن يقول عن نفسه نبيلا راقيا من يفعلها أو يقبلها. والثانية هي الأكبر: إثارة هذا السلوك لحفيظة الشعب المغلوب، مما قد يوقظ الرغبة في المقاومة بداخله، بالإضافة لإدخال عناصر مشكوك في ولائها لأماكن حساسة في الدولة.
لكن هذا العصر ولّى إلى غير رجعة… أليس كذلك؟
في الواقع… لا.
كل هذا ما زال حاضرا، بشكل أقل فجاجة، وأكثر استتارا.
إنَ هذا العصر هو عصر التباعد بين المحرك والمتحرّك، بين المسببات والنتائج، عصر الإنتاج بالجملة والمدن المليونية والوظائف المستجدة كل يوم.
الآن لم يعد العاملون بالنخاسة يسمون بهذا الاسم. لقد صاروا يستترون خلف أسماء جديدة أكثر أناقة: مانحون، شركات توظيف، مهربو بشر، سماسرة احتراف… إلخ
وبدلا من أن يجرجر هؤلاء النخاسون الجدد ضحاياهم إلى الدول المتقدمة رغما عنهم، ويبذلوا جهدا في تقييدهم وكسر عزتهم وإبائهم، فقد أصبح سكان البلاد المتخلّفة هم من يطلبون الرضا ويدفعون الأموال حتى يهربوا من واقعهم المزري ولا يعيشوا حياتهم كاملة في “مقلب نفايات” الحضارة، وهم من يبذلون الجهد متطوّعين ليندمجوا في المجتمع الجديد ليزيدوا من فرص نجاحهم فيه.
المضحك المبكي هو أن نعتبر الدول الاستعمارية دولا متقدمة أخلاقيا وإنسانيا، تلك الدول التي امتصت خيرات بلادنا وغزتها ثقافيا وعملت على تفتيت أواصر حضارتها، وتركت عملاءً مباشرين وغير مباشرين لها في تلك البلاد، وعرقلت تقدمها تارة وتحكمت فيه طريقه تارة، وساندت أي وضع يضمن مصالحها مهما كان انتهازيا وغير أخلاقي.
هذا ما قاله بن نبي الذي عاش في فرنسا ثم انتقل إلى القاهرة مع اندلاع الثورة الجزائرية: هذه الدول أصبح لثقافتها وجهان: وجه يلتفت لذاتها بأخلاقياته الخاصة، ووجه يلتفت إلى سائر العالم وهمه الوحيد هو الفاعلية.
من السهل أن نتوقف هنا، ونقول إنّ المسألة مجرّد “نحن” في مقابل “هم”، عداوة تاريخية، استعداد للانتقام! لكن هذا خطاب تعصبّي، والتعصب لا يهدي إلى الرشد. بالإضافة إلى أن #الحضارة التي أنتمي إليها واضحة الرسالة والمغزى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
الصحيح أن نفهم السياق التاريخي لتفوّق دول معينة وتخلّف أخرى، أن نرى أن هناك دولا كثيرة جدا متخلفة، عربية وإفريقية ولاتينية وأسيوية بل وأوروبية، يحلم عديد من شبابها بـ#الهجرة إلى مكان بإمكانهم أن يحلموا فيه. يجب أن نرى الصورة الكاملة، وأن نتخيل مئات الملايين من البشر تبحث عن فرصة للانتقال للبلاد الغنية، وأن ندرك أن لكرم الضيافة حدودا كما إنّ هذا السيناريو جنوني.
لكم أن تتخيلوا أنه في إحدى شطحات المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة دونالد ترامب أعاد طرح اقتراح ببناء جدار عازل على طول الحدود بين دولته ودولة المكسيك (حوالي الألفي ميل) للحد من عمليات التهريب عموما وتهريب المهاجرين غير الشرعيين على وجه الخصوص!!
الصحيح هو أن نستعين بما لدينا من علم ونشق طريقنا للحضارة بأيدينا وأدواتنا.
نحتاج لأن نتحمّل ما يلزم علينا تحمّله من الألم، كما تحمّلت أمم أخرى آلاما لتخرج من ظلمات تخلفها في كل المجالات إلى تقدّم ولو في بعض المجالات. فعل ما يحتاجه الإصلاح، لا ما نرتئي أنه بوسعنا.
إن المخترع قد يتكبد عناء شهور أو سنين ليخرج للدنيا اختراعا يستخدمه أضعاف هذا الوقت مليارات من الأفراد حول العالم. فترة من المكابدة والعناء وفرت على البشرية مليارات أضعاف ما تحمّله فيها المكافح. الأمر يستحق التأني والتفكر فيه.
ولنسأل أنفسنا: كيف تراكمت لدى هذه الدول الميزة التنافسية الكاسحة مقارنة بما عندنا؟
هل نستطيع تأسيس حضارة مستقلة عنها، حضارة تمثل قيمنا وأخلاقنا وثوابتنا نحن، أم أننا نضيء فقط بداخل حضارتهم، وننطفئ خارجها. وكل كلامنا عن #الهوية والمبادئ والقيم هو محض شعر وظاهرة كلامية، إن لم نر إمكان تحققها فأي معنى يبقى للإيمان بها؟!
ما دور هذه الدول في النظام العالمي، وكيف يؤثر هذا النظام على محاولات نهوض الدول المتخلفة ويدافع عن مصالحه فيها؟
ما دور الاحتلال الفكري في الرفع من شأن العلوم التجريبية والحط من شأن العلوم الإنسانية والعقلية عندنا؟ هل تحتاج مواجهة مشاكل واقعنا مهندسين وأطباء وو.. إلخ، أم إنّ التراجع في كل المجالات بما فيها التجريبية راجع لعطب في العقليات والسلوكيات والضمائر على المستويين الفردي والجماعي. من أين نستقي أولوياتنا ولأين نصرف كفاءاتنا؟
قد يكون العيش في رفاهية ورغد ليس في متناول الجميع، لكن إرادة الإنسان وعزيمته فقط هما ما يحدد هل ستكون لحياته بصمة ومعنى، وهل سيخدم غاية عظيمة، أم لا.
إننا –نحن البشر- نحتاج لمسكن، لا لملجأ. لأن نوسع الرقعة التي يمكننا فيها أن نأمن على أنفسنا وممتلكاتنا وكينونتنا ومستقبلنا، لا أن نتكدّس في الرقع الآخذة في الضيق. ختاما؛ يجب أن ننتبه لحقيقة بالغة الأهمية: أغلب الناس يريدون حلّ مشكلات “الآن”، غافلين عن أنّ كثيرا منها نشأ عبر تطوّر زمني استغرق عشرات من السنين، غفل عنه آخرون كان تركيزهم الأول حل مشاكل “الآن” الخاص بهم.
#بالعقل_نبدأ