في الآونة الأخيرة انتشرت في بلادنا العربية، خاصة تلك التي تعاني من اضطرابات وتراجع كبير في مستوى الخدمات الأساسية، نغمة الرغبة في الرحيل، #هجرة أو سفرا مؤقتا، والأولى أغلب، إلى إحدى البلاد التي ترحّب بالمهاجرين والدارسين وتتميز بالتسامح الديني واحترام حقوق الإنسان.
الإنسان بطبعه يحب الخير، وينفر من الفساد والظلم. يحب أن يلقى تعليما حسنا، وينظر المجتمع إلى كفاءته ورغبته في التعلّم والإضافة إليه، لا إلى شهاداته وخبراته التي لا تعبر عن تطوّر حقيقي في الشخص، ولا إلى معارفه وواسطته، ولا إلى مدى استعداده لبيع قيمه لإرضاء رؤسائه وترك العاصفة تعبر، ولا إلى لونه أو عرقه أو خلفيته الدينية أو أي عامل غير موضوعي، فقط ما يقوّم العمل المطلوب أداؤه.[1] يريد مجالا حقيقيا للتقدّم، ومكانا يستطيع أن يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه، حتى يستثمر فيه أغلى ما يملك، عمره، باطمئنان. وهناك من حلمهم أقل علاقة بالمنتهى، وأكثر علاقة بالواقع المعاش. هؤلاء هم من همهم الأول الهروب من “الجحيم” المعروفة تفاصيله وخنادقه جيدا بالنسبة لهم، مع تيقنهم أنهم لو بحثوا بشكل أعمق في تفاصيله لوجدوا قبحا أكبر وأشد. #الهروب إلى أي مكان ووضع أقل “جحيمية”، مكان يوجد فيه حد أدنى من بواعث التفاؤل والأمل بمستقبل أفضل.
كل هذا معروف ومشهود ومفهوم.
والإنسان لأن له قدرة لا نهائية على التبرير وعقلنة أهدافه وتطلعاته فإنه سرعان ما يستخدم المشهورات والمأثورات في تقوية رأيه وإعطائه الأرضية الثقافية والأيديولوجية، باستخدام الأمثال المشهورة أو الاستشهادات الدينية والتاريخية. وهذا سلاح ذو حدين، لأنه كثيرا ما يصبغ الباطل بصبغة الحق، ويضفي شيئا من الصلابة أو القداسة على الرأي تجعله فوق المساءلة، ناهيك عن تحول النقاش حول أي شيء لمقارعة بالنصوص الدينية وتشكيك في سلامة الدين والعقيدة. وفي هذا المقال سنركز على تناول هذا النوع من الاستدلال.
وإذا أراد الفرد أن يصل إلى الحقيقة بصدق، فعليه أن يستخدم منهجا معرفيا سليما، أي أن يستخدم أدوات المعرفة بالترتيب الملائم، كلا في مجال اختصاصه، وأن تكون المنطلقات التي ينطلق منها ثابتة يقينية، ليست آراء، ليست متواترات لا يعلم ما مدى دقتها وصدقها.
واللغة بطبيعتها حمالة أوجه، وكثيرا ما تفهم نفس الجملة على أوجه متناقضة لا مجرد مختلفة. إذا لا بدّ من العودة لمصدر معرفة يقيني يشير إلى أن اللفظ يشير إلى هذا المعنى، وهل الحكم خاص أم عام؟ وهكذا.
وأكثر الإشكالات في فهم الدين تأتي من الخلل المعرفي السابق. لا يمكن أن تفسّر حمال أوجه بحمال أوجه آخر، يجب أن تعود المعرفة لثابت راسخ وإلا وقع التسلسل أو الدور (اعتماد السبب على نتيجته). لهذا فإنه يستحيل فهم القرآن على وجه صحيح دون معرفة ثابتة غير استقرائية للخالق. ومن نفس المنطلق فإننا حين نفسر مقولة دون معرفة قائلها فإننا نخمّن، أو نعبّر عن إسقاطها على قناعاتنا الشخصية، لا عن حقيقة قصد قائلها منها، حتى ولو تصادف وقوع التطابق بين تفسير المتلقي والمقصود صاحب المقولة.
بعد هذه المقدمة الطويلة والضرورية نعرف مقولة مشهورة للإمام علي بن أبي طالب: «ليس بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»
إن الثابت عندنا أن الرازق والخالق والمدبّر هو الله، واجب الوجود الكامل. ليست هذه الأرض أو تلك، فالشكر إنما يعود له أينما ذهب الإنسان. هذه نقطة.
أما عن علي بن أبي طالب فصفته وخلقه وعقله معروف عند فرق المسلمين قاطبة، والحديث عنه يغني عن الحديث عن شتى وقائع الهجرة في السيرة إذ أنه من خير من مثّل الإسلام. كان رائدا شجاعا، يتصدّر للشدائد والصعاب، لم يكن يبحث لأهله عن عيشة مريحة، وإنما كان يبحث لهم وللعالم عن حضارة تراعى فيها الحقوق والمصلحة العامة، عن الكرامة حيثما نزلوا، فبالعدل وتحكيم الحق وحده يستقيم شأن الأمم.
ماذا كان إصلاحه لمستقبل أبنائه؟ هل كان بتركه إرثا واسعا وملكا وفيرا لهم؟ كان أولا بكونه قدوة لهم، أخلاقيا وعمليا وفكريا، وثانيا بتربيتهم ليكونوا رجالا يتحملون المسؤولية ويصنعون الواقع ولا يرضخون لظروفه ويجعلونها المحدد الأوحد لقراراتهم.
نعم، بالتأكيد أنت لست مِلكا لبلد، وإنما خير البلاد ما حملك، لكن ما “أنت”؟ هل أنت الجزء المادي ذي الحاجات الموجودة عند الإنسان كما هي عند الحيوان، الذي يسعى لإشباع حاجاته البدائية. هل “أنت” المقصود هو الإنسان من أي خلفية ثقافية ودينية وخلقية؟ أم أن المخاطَب بهذه العبارة مخاطب أيضا بسائر الحكم المأثورة عن الإمام والشرعة التي أسسها الرسول والوحي الإلهي؟
“أنت” الجسد والفكر، المادة والمعنى، والتمكين من صناعة نموذج #حضاري يمثل هذا الفكر هو المقصود الوحيد من “حمل البلد” لك.
لم يترك الرسول أيضا عرب الجزيرة الذين كانوا يعيشون على هامش الحضارة ليذهب مبشرا بالدين في أمة عريقة أو أمة متقدمة علميا. وانتقاله للمدينة كان انتقالا استراتيجيا كما هو معلوم. وهجرة المستضعفين من المسلمين من “مكة” إلى الحبشة في وقت استضعافهم المعروفة تفاصيله تاريخيا كانت مؤقتة، وغائية، لم تكن مجرد هروب لتوفير ظروف حياة أفضل.
نعم. كن عليًا، وبالتأكيد البلد التي تحملك، ستكون أفضل البلاد.
يتبع..
#بالعقل_نبدأ
—–
[1] أحيانا يتطلب العمل خلفية دينية أو ثقافية محددة