مقالات

خطاب ما بعد الحداثة وعدمية الذات

مما لا شك فيه، أن مفهوم ما بعد الحداثة يعد من المفاهيم والمصطلحات التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والفلسفية على حد سواء، كما أنه أثار التباسات كثيرة، ويرجع ذلك لاختلاف النقاد حوله ودارسي ما بعد الحداثة، نظرًا لتعدد مفاهيمه ومدلولاته من ناقد إلى آخر.

خطاب ما بعد الحداثة

لكن رغم هذا، هناك شبه اتفاق يصل إلى حد الإجماع على ارتباط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض والعدمية والإقصاء، وتحطيم المقولات المركزية الكبرى التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون حتى يومنا هذا.

من هنا تعد ما بعد الحداثة بالنسبة إلى كثيرين نزعة عدمية على نحو خطير، فهي تقوض أي معنى للنظام والسيطرة المركزية للتجربة، فلا العالم ولا الذات لهما وحدة متماسكة. وفي هذا السياق نجد الخطاب ما بعد الحداثي خطابًا فوضويًا، يقوم على تغييب المعنى وتقويض العقل.

بل يزيد الأمر خطورة أن فلسفات ما بعد الحداثة تمثل معاول للهدم والتفكيك، وتعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية، وكل هذا في سياق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية مثل التشكيك والتفكيك والاستلاب. فهي تجعل من الإنسان كائنًا عبثيًا فوضويًا لا قيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيًا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيًا وضآلة وانهيارًا وتشتتًا.

ما بعد الحداثة وتجلياتها

ما بعد الحداثةفي هذا السياق نشير إلى أن من أبرز سمات فلسفات ما بعد الحداثة إقصاء الذات وعدميتها. فلقد كانت مقولة موت الإله الحدث الأبرز في العصر الحديث، بما تتضمنه هذه المقولة من فقدان للقيم الإنسانية، وسقوط الإنسان في دوامة لا نهاية لها، ولا فكاك منها ولا خلاص، مما جعل الإنسانية تعيش العدمية والعبثية في أقصى مراحلها، وذلك لأن الحداثة هدمت القيم التقليدية دون طرح قيم بديلة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في هذا السياق يشير نيتشه إلى أن الحداثة ألغت الحياة وأفرغتها من قيمتها وحولتها إلى حالة من العدم، وهذه العدمية عبر عنها نيتشه أن الإله قد مات. ويجب أن نلفت الانتباه هنا إلى أن موت الإله عند نيتشه لا يعني موت الإله السماوي، بل موت القيم الإنسانية والمثل العليا وعمومًا موت الميتافيزيقا.

فكرة موت الإله عند نيتشه

موت الإله يعني التضحية بالذات الإنسانية وقيمها، وسقوط الإنسان في دوامة اللا إنسانية، والشعور بفقدان معنى الحياة، وكذلك اغتراب الإنسان عن ذاته، بل بالمعنى الأدق عبثية الذات، ومن هنا نرى أن نيتشه يمثل الأب الروحي لتيار ما بعد الحداثة، لأنه قدم عدة نبوءات للقرن الجديد مثلت علامات فارقة لهذا القرن.

كما مثلت مسارًا مهمًا في أحداث هذا القرن. ولقد استخدم نيتشه مفهوم وفكرة موت الإله كمطرقة ضخمة ضد كل المؤسسات القائمة والمذاهب الأخلاقية، فجميع قيم الإنسان الحديث والعلم والعقلانية والواجب الأخلاقي، والديمقراطية والاشتراكية أعراض فساد وانحطاط يجب سقوطها عن طريق إرادة القوة وظهور السوبرمان.

لذا يجب أن نؤكد أن موت الإله في الفكر الغربي كان بمنزلة ثورة كوبرنيقية، أدت إلى انهيار مركزية الإله كي تعوضها مركزية الإنسان. من هنا يجب أن نلفت الأنظار إلى أن نيتشه كان سبّاقًا للتنبيه إلى خطورة موت الإله كونه حدثًا ميز العصور الحديثة، وأدى إلى تحويل القيم الإنسانية إلى عدم مطلق أفضى إلى فقدان الإنسان الأوروبي ثقته بكل شيء.

ما بعد الحداثة وعبثية الذات

ما بعد الحداثة

عبر هذا الإطار، نشير إلى أنه إذا كان من أبرز سمات الحداثة نزعتها الذاتية التي ميزتها عن النزعة الموضوعية للفلسفات السابقة، فإن فلسفات ما بعد الحداثة تؤكد موت الذات وعدميتها، ومن ثم القضاء قضاء مبرمًا على التقابل الشهير بين الذات والموضوع، الذي كرسته الحداثة، ورفض المبدأ المثالي “ليس هناك موضوع دون ذات”.

إذا رجعنا إلى تاريخ الفكر الفلسفي، لتلمس هذا الموقف وتلك الرؤية في إقصاء الذات وعدميتها عند أشهر تيارات نزعة ما بعد الحداثة، سوف نجد هذا الموقف الرافض للذات وعدميتها والمستبعد لها عند البنيوية، التي اتخذت من موت الذات نداءً لها، إذ قذفت بالنزعة الإنسانية إلى أدنى منزلة، وأخذت على عاتقها تحطيم البديهيات التي طالما ارتكز عليها الفكر الغربي، ومنها فكرة الإنسان.

ميشيل فوكوه

هذا المضمون نفسه نجده عند ميشيل فوكوه في كتابه “نظام الأشياء”، إذ أعلن الموت الوشيك للإنسان، وكتابه “أركيولوجيا المعرفة” في مفهومه للإبستمية رأى أن تبشير نيتشه بظهور الإنسان الراهن وظهور مرحلة جديدة للفكر المعاصر، إذ أكد نيتشه على نزعته الإنسانية بقوله إن قوة الإقناع التي تتصف بها مسلمات المنطق والميتافيزيقا، وأيضًا الاعتقاد بفكرة الجوهر والعرض والمحمول، إنما ترجع كلها وتعود إلى ما تعودناه من اعتبار كل نشاطاتنا نتيجة لإرادتنا، رغم أن إرادتنا هذه لا وجود لها.

كلود ليفي شتراوس

لقد نحى هذا المنحى أيضًا في إقصاء الذات وعدميتها “كلود ليفي شتراوس”، وحجته في ذلك أن الذات هي الطفل المدلل الذي شغل المسرح الفلسفي منذ مدة طويلة، ووقف بذلك حجرة عثرة في وجه كل عمل جاد لرغبته المستمرة في الاستئثار وحده بكل انتباه.

من هنا شن شتراوس حملة شعواء على كل نزعة ذاتية، فهو يستبدل بعبارة سارتر القائلة “إن الجحيم هو الآخرون”، عبارته القائلة “إن الجحيم هو الذات”، ومن هنا اعتقد أن الغاية القصوى للعلوم الإنسانية ليس تركيب الإنسان بل إذابته.

جاك دريدا

استمر نفس الرفض للذات وإقصائها مع جاك دريدا، الذي يستغني عن الذات ويضحي بها في فلسفته، فهو يحاول محاولات مستميتة أن يقوض نهائيًا الفلسفة القائمة على الذات كما ورثها الغرب من ديكارت، وهو في محاولته هذه يذهب إلى أبعد مما وصل إليه فوكوه، إذ حاول أن يدمر ويعصف بالمحور الرئيسي والفكرة المركزية التي قامت وبنيت عليها كلمة الميتافيزيقا وهي مركزية العقل، أي احتلال العقل والكلمة للنقطة الأساسية التي تجعل منها المرجع الأخير لكل فلسفة بل كل حقيقة. ونقطة الانطلاق عند دريدا هي البحث عن مكانة جديدة للكلمة من إسقاطها عن مركزها المتسلط كأصل ومركز اللغة.

أرنست هوكنج

في هذا المسار أيضًا اتجه الفيلسوف الأمريكي أرنست هوكنج في استبعاد الذات ورفضها، وتأكيد عدم جدواها بمفردها في تشكيل الخبرة الإنسانية، والجمع بين الذاتية والموضوعية، ومن هنا يمكن تجاوز الأنا الواحدية فقط عن طريق إبراز الخبرة الفعلية التي تقدم لنا الأساس لتصورنا عن المشاركة والتفاعل مع المجتمع.

مما سبق يتضح لنا بجلاء ارتباط فلسفة ما بعد الحداثة ارتباطًا وثيقًا بالعدمية والتفكيك وتقويض الذات، واستبعادها وإقصائها، والتأكيد على عبثيتها، وعدم جدواها، ومن هنا انهارت القيم الإنسانية وبناء عليه موت الذات ودفنها في قبر عميق.

لذا صارت الذات الإنسانية ريشة في مهب الريح على يد تيار ما بعد الحداثة، وزُعزعت الثقة بكل القيم الإنسانية، وشعر الإنسان بالاغتراب والغربة في نفس الوقت عن ذاته، وأضحت كل القيم الإنسانية عبث لا طائل من ورائه، هذه العبثية جعلت الإنسان يفقد الثقة بكل شيء.

مقالات ذات صلة:

الحب في عصر ما بعد الحداثة

حصان تورينو .. ماذا لو استطاع الحيوان أن يتكلم؟

تأثير المزيكا في الشعوب في عصور ما بعد الحداثة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ عماد عبد الرازق

أستاذ الفلسفة الحديثة و المعاصرة

رئيس قسم الفلسفة، كلية الآداب جامعة بني سويف