لن أمنحكم حقدي!
بغض النظر عن المعتقد الديني، والانتماء السياسي، والتاريخ المكتوب بدماء الضحايا من كل عرق ودين، فإن الإنسانية لا تتجزأ، ومن تلونت قناعاته تجاه حياة إنسانٍ ما ومشاعره وحقه في الحياة بلونٍ أيديولوجي أو عرقي أو ديني بعينه، فقد تجرد من إنسانيته؛ ثمة خطأ لديه في مغزى ودلالة مفهوم الإنسان ذاته.
كم نحن في حاجة إلى توجيه هذه الرسالة إلى كثرة ممن يسرقون حياتنا، يشوهونها، ويدمرونها، وإلى كثرة ممن يحترفون الخيانة، وتعتمل في صدورهم نوازع الحقد والكراهية أيًا كانت أسبابها، علَّهم يفيقون من غيّهم أو يفيئون إلى رُشدهم!
فرنسي فقد زوجته في أحداث باريس
في الثالث عشر من نوفمبر سنة 2015، اقتحم عدد من المسلحين مسرح «باتاكلان» Bataclan في العاصمة الفرنسية باريس، خلال حفل لموسيقى الروك تُحييه فرقة «إيجلز أوف ديث ميتال» Eagles of Death Metal الأمريكية، وأطلقوا النار على الحضور بشكلٍ عشوائي، مُخلفين وراءهم تسعة وثمانين قتيلًا،
كانت من بينهم «هيلين مويال ليريس» Helene Muyal-Leiris، زوجة الصحافي الفرنسي الشاب «أنطوان ليريس» Antoine Leiris. ليلة الحادث، كانت «هيلين» (خمسة وثلاثين عامًا) تحضر الحفل بدافعٍ من عشقها لموسيقي الروك،
بينما كان زوجها منهمكًا في بيتهما يُمارس عمله كمُعلق ثقافي لشبكتي «فرانس إنفو» France Info و«فرانس بلو»France Bleu الإذاعيتين، ويرعى طفلهما الذي لم يتجاوز عُمره سبعة عشر شهرًا.
لحظة فارقة
وفي لحظة فارقة من لحظات حياته، تلقى «ليريس» رسالة نصية من صديقٍ يُخبره فيها بالحادث ويسأله عما إذا كان كل شيء على ما يُرام! شعُر بصدمة كهربائية تسري في جسده، وأسرع إلى فتح التلفاز لمتابعة الأخبار.
يا له من كابوسٍ يُكابد فيه شللاً مُزدوجًا: العجز عن الصراخ لكيلا يُوقظ الرضيع، والعجز عن التفكير في سُبل البحث عن «هيلين» والاطمئنان عليها. تتحرك عقارب الساعة متباطئة، بينما تتسارع ضربات القلب الجريح، إلى أن وصلت أخته برفقة أخاه إلى بيته.
قفز مع أخيه إلى السيارة، وانطلقا في رحلة بحث بائسة ويائسة طوال الليل، من شارع إلى آخر، ومن مستشفى إلى أخرى، تتسارع أضواء المصابيح الليلية على جانبي الطريق، ويعمُق الليل، ويتضاءل الأمل رويدًا رويدًا، إلى أن اخترقت أذنيه تلك العبارة المؤجلة التي كان يخشاها: يجب أن تُعد نفسك للأسوأ.. لقد ماتت «هيلين»!
رسالة ليريس المؤثرة إلى قتلة زوجته
بعد الهجمات الإرهابية بيومين، وما أن استجمع «ليريس» قدرًا من قواه، كتب على صفحته بموقع فيسبوك نصًا أنيقًا ومؤلمًا موجهًا إلى قتلة زوجته.
لم يكن يعلم أن هذا النص سيكون له تأثيره العقلي والعاطفي البالغ والممتد عبر كافة أنحاء العالم، حيث تمت مشاركته 230000 مرة والتقطته الصحف والفضائيات على اختلاف لُغاتها وجنسياتها. وجاء النص على النحو التالي:
لن أمنحكم حقدي
«مساء الجمعة، سرقتم حياة إنسان استثنائي، حُب عمري، أم ابني، لكنني لن أمنحكم حقدي. أنا لا أعرفكم، ولا أريد أن أعرفكم، فأنتم أرواحٌ ميتة. إذا كان الإله الذي تقتلون بصورة عمياء من أجله قد خلقنا على صورته، فإن كل رصاصة في جسد زوجتي هي جُرحٌ في قلبه!
لا، لن أمنحكم حقدي عليكم كهدية. لقد أردتم ذلك، لكن الرد على الحقد بالغضب يعني الاستسلام للجهل الذي يجعلكم على ما أنتم عليه. تريدونني أن أخاف، وأن أتلفت من حولي بعين الريبة، وأن أضحي بحريتي من أجل أمني، لقد خسرتم، لأن اللاعب سيواصل لعبته!
هذا الصباح، شاهدتها أخيرًا بعد انتظارٍ طويل. كانت جميلة مثلما كانت عندما غادرتني مساء الجمعة، وكما كانت حين وقعت مجنونًا في حبها قبل اثني عشر عامًا. من المؤكد أن الحزن يدمرني، أعترف لكم بهذا الانتصار الصغير، لكنه انتصارٌ قصير الأمد، لأنني أعرف أنها ستصاحبنا كل يوم، وأننا سنلتقي في جنة الأرواح الحرة التي لن تروها أبدًا!
نحن اثنان فقط، ابني وأنا، لكننا أقوى من كل جيوش العالم. ليس لدي المزيد من الوقت لكم، لأن ملفيل Melvil أوشك على الاستيقاظ من نومه، عمره لم يتجاوز السبعة عشر شهرًا، سيتناول وجبته مثل كل يوم، ثم سنلعب معًا مثل كل يوم. هذا الطفل سيزدريكم طوال حياته لأنه سعيدٌ وحر، ولا، لن يمنحكم حقده، هو أيضًا»!
الكراهية لا معنى لها
في 2016، وبعد مرور عام على مقتل زوجته وكتابته لتلك الكلمات الموجعة، نشر«ليريس» كتابه المؤثر «لن أمنحكم حقدي»You Will Not Have My Hate، يرصد فيه بالتفصيل وقائع مأساته. كان طوال العام يُكابد صراعًا بين شعوره بأن العالم قد توقف إلى الأبد، وإصرار الحياة على الاستمرار.
لقد غضب حين فوجئ بعامل شركة الكهرباء على باب بيته يقرأ العداد: كيف يجرؤ العالم على مواصلة الحياة؟! لكنه نجح في تجاوز هذا الصراع بكتابه، فهو يجعل الوقت ثابتًا إلى الأبد!
ها هم الغُرباء يلتفون من حوله، يُرسلون إليه الهدايا، يُراسلونه: «ما أجمل وأرقى أن ترد على الكراهية العمياء بالحب الأعمى»، «أنت الشخص الذي تأذى، لكنك أيضًا من تُلهمنا الشجاعة»!
ها هم يدعونه لزيارتهم، وللطواف بكافة بلدان العالم، لكنه لديه «ملفيل»: إذا كان من الضروري أن أكون أبًا مُتفرغًا فليكن ذلك منذ اللحظة الأولى، لقد استثمرت نفسي في الأبوة بنسبة مائة في المائة، وتلك وسيلتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة، وعدم الاستسلام لمخاوفي، ومواصلة العيش!
سأله بعضهم عن شعوره تجاه الأشخاص الذين انتقدوا تسامحه، لكنه كان حذرًا: «أتفهم وجهة نظرهم، لا بأس، إنهم يرون الأمر من منظورٍ مختلف. لقد أردت مرات عديدة أن أكره القتلة، وأن أهرب، ليس فقط من باريس، بل ومن العالم برمته، وكان من الممكن أن أستسلم لتلك الغريزة، لكن الكراهية لا تجلب سوى الكراهية، والحقد لا يجلب سوى الحقد»!
حادثة قتل بلقيس زوجة نزار قباني
تتشابه قصة «ليريس» مع قصة أيقونة الشعر العربي المعاصر «نزار قباني» حين قُتلت معشوقته وزوجته وأم أولاده «بلقيس الرّاوي» في هجومٍ إرهابي مُماثل، مع اختلاف الزمان والمكان واللغة والهدف،
ففي صباح العاشر من ديسمبر سنة 1981، استيقظ الحبيبان فتعانقا كالعادة وافترقا، دون أن يدريا أنه عناقهما الأخير، وأنها لحظة الوداع الأخيرة.
ذهبت «بلقيس» إلى مقر عملها في الملحقية الثقافية بالسفارة العراقية في بيروت، بينما انطلق «نزار» إلى مكتبه المجاور في شارع الحمراء، وما هي إلا لحظات حتى دوى انفجارٌ هائل زلزل الأرض تحت أقدام الجميع.
لم يفصل بين العصفور الدمشقي المرتجف وبين الفاجعة إلا دقائق، أدرك بعدها أن دم حُبه الأكبر قد سُفك بأبشع الصور، وبأكثر الطُّرقِ وحشية: لقد تم تفجير السفارة العراقية وقُتل ما يقرب من ستين شخصًا، من بينهم «بلقيس»!
مرثية عاشق لمعشوقته
رحلت «بلقيس»، زرافة الكبرياء، وأطول النخلات في أرض العراق (على حد وصفه لها) تاركةً وراءها وجعًا ينبش في وجدان «نزار»، ليكتب مُرتجف اليدين مرثيته الباكية لها التي أسالت دموع العالم حين ألقاها بقلبٍ مكسور.
كانت بلقيس واحة حياة «نزار» وملاذه وهويته وقلمه وأجمل ملكات خياله الشعري، ولم تكن القصيدة التي وضع اسمها كعنوان لها مجرد مرثية عاشق لمعشوقته، بل كانت بمثابة صرخة مُدوية في وجه هذا العالم الوحشي، ومحاكمة علنية فاضحة لعالمنا العربي برمته، شعوبًا وحكومات.
قال في بدايتها: شكرًا لكم.. شكرًا لكم، فحبيبتي قُتلت، وصار بوسعكم أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة، وهل من أمةٍ في الأرض إلا نحن تغتال القصيدة!
أخيرًا، أقول لكل من يُروج لخطاب الكراهية: كبُرت كلمة تخرج من أفواهكم، الكراهية لا تُولد إلا كراهية، والعُنف لا يُولد إلا مزيدًا من العُنف! أقول لكل من يُروج لخطاب الكراهية ويُترجمه فعلاً ممقوتًا سالبًا للحياة: موتوا بغيظكم.. لن أمنحكم حقدي!
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا