إن الخروج من مأزق المعنى العام والقيمة المثمّنة، اللّتينِ تحت غطاء بريقهما تُسرّب الذواتُ الصانعة للخطابات عوالمَها الخاصة وصراعاتِها، مرهونٌ بتفصيل القول في نقطتينِ:
طريقة تنظيم الخطاب
أن نعرف أن هوية الخطاب ليست في مجرد منطوقه العام، أو مادته الخام، أو قيمه المعلنة على مستوى واجهته، كأن يقول قائل مثلًا: هذا خطاب ديني لأنه تتردد بين جنباته نصوصٌ شرعية، وهذا خطاب عقلاني لأنه يُعظّم قيم العقل، وهذا خطاب إنساني لأنه يُمجّد كرامة الإنسان.
لكن هوية الخطاب في الوظيفة التي تؤديها تلك المعاني والقيم داخل الخطاب، أي أن هوية الخطاب بالتحديد تكون في طريقة تنظيم قيم الخطاب وشكل حضور معانيه، وليس في مجرد الوجود المطلق لتلك القيم وهذه المعاني.
من ثم يَلزمنا أن نعرف سرَّ هذه الأولوية الممنوحة من قبلي لـطريقة تنظيم قيم الخطاب وشكل حضور معانيه على ماهية هذه القيم والمعاني المطلقة، وهذا ما سأفصّل فيه القولَ في هذه الكلمة بعد قليل.
وجود نموذج تحليلي
ضرورة مقاربة الخطاب من خلال نموذج تحليلي نُفرّق به بين المرجعيات القيمية العامة، التي تمثل واجهة الخطاب بغيةَ معرفتها وتحييدها، وبين مسالك صانع الخطاب مع هذه المرجعيات،
بوصفها منافذه التي منها سيتسرّب خاصُ صانعِ الخطاب تحت غطاء عام الخطاب من مرجعيات بغيةَ وضع هذه المسالك لصانع الخطاب في دائرة الضوء، للوقوف على مدى اتساقها مع مرجعيات الخطاب التي تمثل واجهته، وهذا ما سأفصل فيه القول في الكلمة القادمة.
خصائص الخطاب
هاكم تفصيل النقطة الأولى من هاتينِ النقطتينِ:
حضور المعنى داخل الخطاب
سرُّ أولوية تنظيم قيم الخطاب وشكل حضور معانيه على مجرد وجودهما المطلق:
إن سر هذه الأولوية الممنوحة لـوظيفة القيمة وشكل حضور المعنى داخل الخطاب على مجرد وجودهما المطلق في الخطاب، يعود إلى أمرين:
سردية الخطاب
الأول: أن الخطاب بوصفه سرديةً معينةً لموضوعه وموقفًا محددًا مما ينهض عليه هذا الموضوع من قيم ومعانٍ، يتحتم جمعه في بنيته ودلالته بين العام القيمي والخاص الذي يتعلق بصانع الخطاب، إذ إن تلك السردية تخضع لتأطير وتقطيع معين، يُنسب ذلك التأطيرُ إلى صانع الخطاب أكثر مما يُنسب إلى قيمه ومعانيه التي تسنده.
أنْ تصوغ خطابًا ليس أن ترتقي شجرةً لتلتقط الأفكار بكرًا، أو تحفر بئرًا لتصل إلى الحقائق صافية، فالخطاب –بوصفه سردية– ليس رواية مجردة لموضوعه، ولكنه –في العمق– خضوع لخطة ذهنية مسبقة غير مصرّح بها، وتشخيص لخبرة صاحب الخطاب الإنسانية والمعرفية مع موضوع الخطاب وما ينهض عليه من قيم ومعانٍ.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
أجزاء الخطاب
ما يعني أن الخطاب –من هذه الجهة– يتشكل من شقين:
الأول: مجموعة من القيم والمعاني التي تشترك فيها البشرية، تلك المعاني والقيم تمثل لصانع الخطاب مجالَ عمله ومادته الخام، وهذا هو الجانب العام في الخطاب.
الثاني: تنظيم هذه القيم والمعاني، ذلك التنظيم الذي يُنسب في المقام الأول إلى صانع الخطاب، وهذا هو الجانب الخاص في الخطاب، لكونه يمثل خصوصية صانع الخطاب في مقاربة تلك القيم والمعاني.
شكل حضور الخطاب
من ثم فشكل حضور الخطاب لو بدا –في ظاهره وسطحه– قيميًا عامًا، بسبب عمومية موضوع الخطاب وما ينهض عليه من قيم ومعان، إلا أنه يتحتم –في عمقه وحقيقته– أن يكون خاصًا، نتيجة حتمية تنظيم موضوعه وقيمه من قبل صانع الخطاب، وهو ما يعني أن الخطاب لو بدا على مستوى سطحه أنه يجمع ويوصّل فإنه على مستوى عمقه يُفرّق ويُميّز.
هذا التفريق والتمييز الذي يباشره الخطاب على مستوى عمقه، يتهدد الخطاب بالرفض ويتهدد صانعه بافتقاد المصداقية، لذلك يأتي سعيُ صانعِ الخطاب نَحْوَ طبع موضوع الخطاب بمحصلة خبرته الشخصية مع موضوع الخطاب –مضمرًا مقطّرًا في تفاصيل الخطاب، لإيهامنا أن ما هو ذاتي خاص –وهو الخبرة الشخصية لصانع الخطاب مع موضوعه ومعانيه وقيمه– ليس إلا عاما، وهو الموضوع وقيمه.
سر قوة الخطاب
بعبارة أخرى: ما الخطاب –في العمق– سوى محاولة لإعادة إنتاج معارف وقيم ممزوجة في كثير من الأحيان بالرغبات والميول والدوافع والتصورات، وعلى قدر نجاح صانع الخطاب في إخفاء هذا التقطير لذاتيته داخل الخطاب وتفاصيله ترتفع مصداقية خطابه ويقوى تأثيره ويتسع نفوذه، إذ يبدو الخطاب وكأن وقائعه ونصوصه هي التي تَنطق، وليس صانع الخطاب هو الذي يُنطقها، هذا هو سر القوة الضاربة للخطابات.
من ثم فالخطاب حيز يتداخل فيه الخاص مع العام تداخلًا يتفاوت خفاؤه بتفاوت مهارات وقدرات صانع الخطاب على إخفاء هذا التداخل، فثمة علاقة طردية بين القدرة على إخفاء تداخل الخاص مع العام في الخطاب، وبين مهارة صانع الخطاب وقدراته.
بمعنى أنه كلما كان صانعُ الخطاب ماهرًا في استخدام عُدّته المعرفية والأسلوبية كان قادرًا على إخفاء إدراجه للخاص ضمن العام، أو أنجح في إيهامنا بأن الخاصَ عامٌ، وعلى قدر نجاح صانع الخطاب في إخفاء هذا المزج يكون نجاحه وتكون مقبولية خطابه، إذ إنه استطاع استدخال ذاتيته في عمومية الخطاب.
إن هذا التحليل لهذه النقطة ينتهي بنا إلى حقائق أخلاقية هامة يحسن إبرازها لكونها فارقة في فهم الخطاب بوصفه بناءً يُشيّد.
يتبع.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا