-“أنت حرّ ما لم تضرّ”. مقولة تعتبر حجر الزاوية في الفكرة الليبرالية وشعارها الأساسي. والمقولة تبدو لأوّل وهلة مقبولة كقاعدة عامّة، لكنّ التطبيق يتباين بشدّة تبعًا لتعريف الضرر: هل هو ضرر مادّي، أو هو ذاك مضافًا إليه المعنوي؟ هل الضرر المقصود هو الواقع على “الآخر” أم على النفس كذلك؟ والسؤال الأهم: ماذا عن حق المجتمع؟!
فالحقوق التي تكفلها وتنظّمها الحكومات وتقرّها القوانين والتشريعات ليست “الدولة” منبعها، فكل حق خاصٍّ هو فرع ناتج عن حق عام، والحقوق العامّة مكفولة لكلّ إنسان بما هو إنسان إلا من بغى أو اعتدى، وحتّى هذا المعتدي لا يُؤخذ من حقوقه إلا بالمقدار الذي يكفي لكفّ شرّه عن الناس، ولا يردّ الضرر بضرر أعظم، لأن تحجيم الضرر والحفاظ على الحياة والحقوق قدر الإمكان هو الهدف. وهناك حقوق أيضًا للكائنات الحية بل وللكوكب ذاته للحفاظ على التوازن البيئي واحترام الحياة. هذه من المسلّمات العقلية الفطرية، والتي يبقى تجاوزها مستنكَرًا ولو لم ينصّ عليها قانون. على الجانب الآخر فإنّ إقرار السلطة أو المجتمع بمشروعية أمر ما لا تجعله حقًا أو صوابًا، كما أنّ تجريمها لأمر لا يجعله شرًا، فالحقّ حق في ذاته. والحقّ يترتّب على معرفته واتّباعه تعظيم الفائدة الإجمالية (وليس بالضرورة الفائدة المباشرة)، وهو ثابت لا يتغيّر للقضية الواحدة، وتغيّر مُحدّدات القضية يجعلها قضية أخرى لها حقيقة ثابتة أيضًا. ووسائل التوصّل للحقيقة ثابتةٌ ومعياريّةٌ كذلك، لا تخضع لهوى، أو مصلحة ضيّقة أو رأي عام. من هذا الثبات من المفترض أن يستمدّ القانون حياده وهيبته، ويأمن الإنسان على نفسه وماله ويستطيع التخطيط لمستقبله، أمّا عند عدم وجود مصدر ثابت محدّد للقوانين، وإمكان استحداث قوانين تحذف حقوقًا أو تعطي مخصصّات لفئةٍ ما مع جعل الرؤية السياسية هي مصدر التشريع، فإنه يضع من تتعارض مصالحهم أو مكتسباتهم أو رؤاهم مع القيادة السياسية في مهبّ الريح، ويفتح الباب على مصراعيه للاستبداد والظلم والفساد.
هناك خلل عظيم يتجلّى عندما يحترم الناس العُرفَ أو القانونَ أو بتعبير أشمل: السلطة الاجتماعية، دون أن يحترموا الحقّ في ذاته. يظهر هذا الخلل في الوضع الاستثنائي الذي يضع صاحبه خارج نطاق المحاسبة والعقاب من قِبَل المجتمع كما في الموقفين:
1- أيحسب أن لن يقدر عليه أحد: لا يملك عليه أحد سلطة الحساب والعقاب.
2- أيحسب أن لم يره أحد: لا يمكن إثبات مسئوليّته عن وقوع المخالفة أو الضرر.
هذا الإنسان المنضبط فقط بالقانون ليس مستبعدًا أن يتحوّل إلى مفترسٍ بلا ضميرٍ في الحالات السابقة، خاصّة عندما تكون من طباعه الانتهازيّة. يذهب مواطن الدولة القويّة إلى الدولة الضعيفة فيتعالى على الناس، ويتجاوز في حقوقهم مطمئنًا لكونه خارج طائلة القانون، تجد بعض الناس يسارعون بالسطو على المحلّات الكبرى عندما يغيب الأمن وتنقطع إمدادات الطاقة، ويذهب العلماء في الدول المتقدمة لإجراء التجارب المحظورة قانونًا عندهم لكونها لا أخلاقية أو ضارّة- في دول ضعيفة تشريعيًا أو ذات إدارات فاسدة، وهكذا. تلك حضارة جوفاء مهما خلبت الأبصار بتقدّمها التقني وجمالها الخارجي.
وليس هناك شكّ في أنّ السلوك الإنساني يرسم شخصيّة الإنسان، كيف سيكون شعور أيّ منّا إذا علم أنّ جاره بنى ثروته على استغلال ظروف المستضعفين وغفلة الجاهلين، أو تمكّن من الإفلات من العقوبة بعد ارتكاب جرائم في حق آخرين في دولة أخرى. حقيقة كونه ليس مدانًا أو محكومًا عليه لا تعني أنّ شخصيته تعتبر سويّة، واستخدامه لأساليب ملتوية في تفادي العقوبة بنجاح يرجّح محاولته لتكرار ذلك في المستقبل. لهذا فإنّ محلّيّة مصدر التشريع ليست ذات معنى، فالجرم جرم أينما ارتكب، وهو ليس حادثًا عابرًا لا أثر له في نفوس حاضريه.
والإنسان الذي يمارس من الأفعال ما يعود عليه بالضرر، لا يتوقّف ضرر فعله عنده فقط. ماذا عن أقاربه وأصحاب الفضل عليه؟ ماذا عمّن ينظرون لفعله على أنّه مثير أو جاذب للانتباه، أو منَ يعتبرونه قدوة ومثالا (وقليل من الناس هم على مقدار من التجرّد يسمح بالفصل بين الحسن والقبيح في الشخص وعمله). والشخص الذي يدخّن بشراهة على سبيل المثال لا يدفع فقط ثمن السجائر، هو يدفع ثمنًا باهظًا من صحّته وعمره وإنتاجيّته، وكلّ هذه التكاليف هي موارد مهدرة، كان يمكن تفادي إهدارها وبالتالي تعظيم الناتج الإجمالي للمجتمع (ملايين من المدخّنين ومتعاطي الخمور والمخدرات وغيرها) وتحسين مستوى معيشة ورفاهية الفرد الذي يضرّ نفسه، وتحجيم حجم الاقتصاديات القائمة على هذه الأنشطة الضارة بما لذلك من أثر قيميّ على المجتمع*.
وإذا التفتنا إلى الوحي الإلهي نجده قد أتى منبّهًا الإنسان لأنّه دائمًا مراقَب وأنّه حتمًا سوف يحاسَب في النهاية، ويحذّره من أن يجعل الله أهون الناظرين إليه بمسارعته لانتهاك الحُرمات متى اختلى بها. ومن جهة أخرى يكشف الوحي عمّا وراء التشريع من الحفاظ على المقاصد الكلّية، وعن التلازم بين تحقّق الخير والتزام ضوابط الشرع، مع التنبيه على خطورة التساهل، فما كثيرهُ حرام قليلهُ حرام، ومعظم النّار من مستصغَر الشرر.
وما بين تهذيب النفس، ومساعدة المحتاج، وإقامة ما لا يصلح المجتمع إلا بقيامه: ينصرف وجوبًا ما يخرجه العابدون لله تكفيرًا عن ذنوبهم أو تلبية لأوامر الله عز وجلّ أو تقرّبًا منه. لا يُطلب منهم قربانٌ تأكله النار، أو يبتلعه النهر، أو غير ذلك. لا يطلب منهم تركَ الدنيا والاعتكافَ في الصوامع ودور العبادة لأطول وقت حتى ينفكّوا عن المجتمع والعالم المادي بشكل شبه كامل، مدمّرين قوة البناء والبقاء في المجتمع. لا يريد الله للإنسان إلا ما يستجديه هذا الإنسان من رزق وانصلاح للأحوال، بانصراف طاقة البشر في الحياة نحو البناء والتكافل والتكامل، بدلا من المبالغة في الترفيه والاستهلاك والغفلة عما هو من الضروري فعله لحفظ أساسيات الحياة الكريمة.
حريّة البشر وسعادتهم تنطلق من الكليّ العام إلى الجزئيّ الخاصّ، من الأصول إلى الفروع، وليس العكس. والحرّية تزيد بزيادة استقامة البشر على السلوك الذكي المنضبط بالعلم الصائب للحقائق والثوابت، والضروريات والمحظورات، بعد التوحيد الحتميّ لمرجعيّتهم القيميّة: الحقّ، منبع وملتقى جميع ما يطلب الإنسان من الخير.
*ينبغي على المجتمع أن يكتشف الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع لسلوكيات مثل هذه ويعمل على معالجتها، لا أن يطالب الناس بتحمّل ما لا يطيقون من الضغوط ويعيب عليهم لجوئهم لوسائل خطرة للتنفيس عن المشاعر السلبية.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.