حقيقة صوم رمضان بين المفكرين والفلاسفة
مقدمة
مما لا شك فيه أن الصوم يمثل عبادة من أسمى العبادات وأجلها، فهو مدرسة روحية لتهذيب النفس والحث على الفضائل السامية، وغرس القيم النبيلة. كما أنه شعيرة قديمة وجدت في كل الأديان سواء كانت أديانًا وضعية أو سماوية.
الصيام ليس مجرد الجوع والعطش والحرمان من الملذات، وليس أيضًا فلسفة للوصول إلى خرق العادة كما هو معروف عند بعض أصحاب الديانات الوضعية، ولا يمت لنظرية “اللذة في الألم” بأي صلة.
نعم هو امتناع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن له مقاصده العظيمة، وأسراره الكبيرة، التي تعمل على بناء الفرد والمجتمع بل والأمة بأسرها، على قيم الرشد والتعاليم السامية والفضائل النبيلة، كل هذا بعيدًا عن مظاهر الإسراف والتبذير، وفي توازن عجيب بين مطالب الجسد والروح.
الصوم يزكي النفس ويطهر الروح، ويشحذ الهمم والإرادة، وفي هذا السياق نشير إلى أن حلول شهر رمضان كان من المناسبات الخاصة التي تحظى باهتمام فائق من الكتاب والمفكرين والمؤلفين، الكل يتبارى في ما سوف يكتب عن صوم رمضان، وبما سيقدمه عن فيوضات الصوم وتجلياته في هذا الشهر الجليل، الذي يمثل منزلة عظيمة لدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
لعل من أشهر هولاء المفكرين الذين سنلقي عليهم الضوء في مقالتنا هذه الكاتب مصطفى صادق الرافعي، والكاتب والمفكر الكبير محمود عباس العقاد، والمفكر الإسلامي الكبير علي عزت بيجوفيتش. ثم نعرج لبيان أسرار وحكمة صوم رمضان عند بعض الفلاسفة المسلمين، ولعل أشهرهم الإمام أبو حامد الغزالي، والفيلسوف ابن سينا.
الصوم ثورة روحية عند الرافعي
كان حديث الرافعي عن صوم رمضان في أشهر كتبه “وحي القلم”، ولقد أطلق تعبيرًا يحمل دلالات كثيرة ومعانٍ غزيرة، إنه تعبير الثورة، بما تحمله من تغيير في السلوك والأخلاق، فالصوم من وجهة نظر الرافعي ثورة روحية لما يتضمنه من تهذيب للنفس، وجعل الناس سواسية ومتساوين، يصبغهم بشعور واحد، ومشاعر واحدة، يصومون في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، وهذا له دلالة واحدة: المساواة والشعور بحالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح، يعلِّم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة: تلك التي بها تحدث مساواة الغني بالفقير.
من هنا الصوم يحدث الهدوء النفسي، ويهيئ الأرواح لتتخلص من علوقها الأرضي متجهة إلى عالم أقرب وأطهر وأسمى، متخذة لطاقتها معراجًا تعرج به نحو السماء([1]).
ليس هذا فحسب، بل يصف الرافعي الصوم بتعبير بليغ وبياني رائع يأخذ بالألباب، ويعطي القلب شحنة إيمانية تسري في الوجدان: “أن الصوم فقر إجباري”، لأن الرافعي يرى أن هذا الحرمان من الطعام والشراب ومن شهوات الجسد ليس المقصود منه تعذيب النفس الإنسانية أو قهرها، إنما شُرِّع لغاية اجتماعية أعظم، فهو يجعل المرء يجوع ويترك شهوته لكي يحقق المساواة والوحدة بين أفراد الأمة.
إن الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضًا، ليتساوى الجميع في بواطنه، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير ومن لم يملك شيئًا. ليس هذا فحسب بل فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية عمليًا بكل وضوح، أن الحياة الصحيحة يتساوى فيها الناس في الشعور.
اقرأ أيضاً: الصيام والتغذية
فلسفة الصوم في أدب الرافعي
تتعدد فوائد الصوم، ولعل من أبرز هذه الفوائد وجود ألم في عملية الصوم، الذي يرى الرافعي له سرًا عظيمًا، هذا الألم النفسي والجسمي الناتج عن الامتناع عن الطعام والشراب إنما منشأ الرحمة، لذا فإن من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم للصوم([2]).
يعرج الرافعي بعد ذلك للحديث عن شهر رمضان المعظم الذي له مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، لا ينازعه في هذه المكانة أي شهر آخر، ولم لا؟ وهو الشهر الوحيد الذي ذكر في القرآن، ونزل فيه القرآن، وبه ليلة هي أعظم من ليالي الدنيا وخير من ألف شهر: ليلة القدر.
يصف الشهر بقوله أن أيامه قلبية في الزمن، كما أن أيامه بمقام ثلاثين حبة تؤخذ كل سنة، لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم. لعل من أبلغ العبارات والوصف الجميل عند الرافعي الحديث عن رؤية الهلال، وما له من فرحة غامرة تسيطر على النفوس، وتشيع في القلوب الفرحة، وكيف أن رؤية الهلال تثبيت للعزيمة وإعلاء من شأنها، واستعداد لبداية الكفاح من أجل صوم هذا الشهر الفضيل.
في نهاية الحديث عن الصوم عند الرافعي نرى أنه يقوي العزيمة، ويهذب النفس ويقوي الروح، ويعلم الصبر.
الصوم وتجلياته عند العقاد
لعلنا نشير هنا أن العقاد كتب عن صوم رمضان وهذا الشهر في عدد رمضان من مجلة الهلال عام 1955، وكتب عدة مقالات عن صوم رمضان في كتابه “الإسلام دعوة عالمية”.
يشير في هذا الكتاب إلى أن حكمة الصيام في الأديان الكتابية كانت محصورة في أغراض معدودة، وهي تعذيب النفس والتكفير عن الخطايا والسيئات، وتربية الأخلاق على نحو ما. أما الدين الإسلامي الدين الكتابي الوحيد الذي فرض كتابه الصيامَ فترة معروفة من الزمن على نحو معروف من النظام.
لا خلاف بين الأئمة أن الحكمة المقصودة بهذه الفريضة تقويم الأخلاق وتربيتها. من هنا فإن الخُلق الذي يعم الأغنياء والفقراء ويستفاد من فريضة الصوم هو الإرادة، فالإرادة لازمة في كل تكليف وفي كل تبعة وفي كل فضيلة، فلا قوام للفرائض والفضائل جميعًا بغير هذه الإرادة. وهي لازمة للفقير لزومها للغني([3]).
من هنا يصف العقاد شهر رمضان بالفريضة الاجتماعية، وأن أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، والخُلق في الدين، وأن الخُلق يجب أن يكون له تبعات وتكاليف، وأن من ملك الإرادة فإن زمام الخُلق بين يديه، وأن رمزية شهر رمضان أنه فريضة اجتماعية على آحاد المكلفين، وموعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها على هذا النظام وتغيير العادات شهرًا في السنة، تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد.
اقرأ أيضاً: شهر رمضان .. صالة تدريب الروح
الصيام التزام اجتماعي عند بيجوفيتش
في كتابه الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” يشير بيجوفيتش أن المسلمين اعتبروا الصوم في شهر رمضان مظهرًا لروح الجماعة، لذلك فَهُم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب، فالصيام ليس مجرد إيمان، وليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، هذا التفسير للصيام كونه شعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى.
إن الصوم في الدين الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، إنه مظهر من الالتزام الاجتماعي، ويقول عن تجربته الشخصية مع الصوم إنه قضى في سجن فوتشا ذي الجدران العالية مدة ست سنوات، كان يشعر أن حالته تسوء عندما يتغذى جيدًا، وأن الجوع كان يساعده على رفع المعنويات رفعًا أفضل([4]).
من هنا فالصوم له أسرار عظيمة وفوائد كثيرة، لعل من أبرزها محاولة سيطرة الروح على الجسد، من هنا يدعو بيجوفيتش الأمة أن تتبنى تجربة الصوم في أيام معدودة في حياتها بأسرها، لكي تحقق النظام والمحافظة على الصلاة وتعلم الصبر واليقين.
الغزالي وأسرار الصوم
لعل من أبرز الفلاسفة المسلمين الذين تحدثوا عن الصوم وأسراره وفضائله الإمام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”، في الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان “أسرار الصوم” يقول: “الحمد الله الذي جعل الصوم حصنًا لأوليائه وجُنة، وفتح لهم أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها”.
في هذا السياق يقسم الصوم إلى ثلاثة أقسام:
- صوم العوام: كف البطن والفرج عن قضاء الشهوات.
- صوم الخصوص: كف السمع والبصر واللسان واليد وسائر الجوارح عن الآثام.
- صوم خصوص الخصوص: صوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية([5]).
من هنا يتضح أن للصوم أقسامًا لعل أرفعها وأسماها درجة صوم خصوص الخصوص، لأن به يصوم المرء عن كل شيء ما عدا الله، ويتعلق القلب بالله، وتتطهر النفس من علائق المحسوسات، لذا يرفعه الغزالي عن باقي أنواع الصوم.
اقرأ أيضاً: هل نصوم لنشعر بالفقراء كما هو معروف؟
الصوم دواء عند الفيلسوف ابن سينا
ابن سينا من الفلاسفة المسلمين الذين أعطوا للصوم اهتمامًا كبيرًا، ووصفه علاجًا ودواءً في بعض الحالات المرضية. فهو يرى أن الصوم عبادة بالإضافة إلى كونه علاجًا ودواءً أيضًا، بل كان يفضل الصوم على الدواء ويقول إنه الأرخص ويصفه للغني والفقير.
كان يفرض الصوم ثلاثة أسابيع في كثير من الحالات الطبية والمرضية التي تعرض له، ويرى أن الصوم عامل مهم في علاج الجدري والزهري.
مما سبق نرى أن الصوم يمثل مدرسة روحية تهذيبية، يعمل على سمو الروح والأخلاق، ويغرس الفضائل النبيلة، ويطهر الروح والنفس، ويرقي بهما إلى معراج أرقى من المحسوسات.
المصادر:
[1] -مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم، دار ابن حزم، 2017، ص449.
[2] -مصطفى الرافعي: من وحي القلم، ص454.
[3] -العقاد: الإسلام دعوة عالمية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، ص145.
[4]-علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، تقديم عبد الوهاب المسيري، ترجمة محمد يوسف عدس، دار الشروق، القاهرة، 1980، ص76.
[5] -الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ج1.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا