علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

حظ أخلاقي!

مصطلح «الحظ الأخلاقي» Moral Luck من وضع الفيلسوف الإنجليزي «برنارد وليامز» Bernard Williams (1929 – 2003)، وهو أيضًا عنوان كتاب له نشره سنة 1981، يطرح فيه مشكلة التوفيق بين المسؤولية الأخلاقية والفعل الإرادي، ومدى صعوبة تعميم هذه المسؤولية في ظل ظروف بيئية مختلفة قد يتم فيها إصدار الحُكم الأخلاقي اعتمادًا على عوامل خارجة عن إرادة الفاعل، أو ما دعاه «وليامز» بـ «الحظ».

بعبارة أخرى، يولد الناس ويعيشون في ظل ظروف بيئية متفاوتة، وتحكم أفعالهم عوامل متباينة، قد تكون مريحة وقد تكون صعبة، وقد تكون خاضعة للإرادة وقد تكون قهرية، فهل عليهم جميعًا تحمل المسؤولية الأخلاقية بالدرجة ذاتها؟

لنفرض مثلًا أن شخصًا فقيرًا قد وُلد في أسرة فقيرة، وليست لديه أية وسيلة للحصول على الطعام سوى سرقته، فهل يستوي –من حيث المسؤولية الأخلاقية– مع من وُلد في أسرة ثرية، ويتوافر له الطعام دون أن يبذل أي جُهد، ومع ذلكم يُمارس السرقة؟ وهل ينبغي أن يكون الشخص الفقير مستحقًا للوم الأخلاقي أكثر من ذلك الشخص الغني؟ أليس من المُجحف أن نُحمله ذنب مولده في أسرة فقيرة، دون أن نولى اعتبارًا لمسألة الحظ؟

مثالٌ آخر

لنفرض أن ثمة سائقين يقودان سيارتيهما في شارعين مختلفين، وقد تماثلت الظروف لكليهما في البداية (من حيث كفاءة السيارتين وتمكنهما من القيادة وتطابق الشارعين وغير ذلك)، وفجأة أضاءت الإشارة الحمراء لكليهما في اللحظة ذاتها، وضغط كلاهما بقوة على مكابح السيارة لتنحرف به إلى أحد جانبي الطريق،

لكن الأول كان حظه عثرًا، حيث صودف عبور طفل للطريق لحظة انحرافه بسيارته فقتله، أما الثاني فقد كان محظوظًا لأن الطريق كان خاليًا فتوقف ثم واصل سيره بسلام. فهل يتحمل الأول مسؤولية القتل نتيجة حظه العاثر؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أنواع الحظ الأخلاقي

النوع الأول

في مقاله «الحظ الأخلاقي» Moral Luck (1979)، ميَّز الفيلسوف الأمريكي «توماس ناجل» Thomas Nagel بين أربعة أنواع من الحظ الأخلاقي؛ الأول هو الحظ الأخلاقي الناجم عن المواقف والأفعال Resultant moral luck (consequential)، ومثاله شخصٌ ما، وليكن طبيبًا، ترك عمله الإنساني كمُعالج ومُنقذ للأرواح، وهو العمل الذي يُدر عليه أيضًا دخلاً طيبًا، لكي يُمارس هوايته الفنية أيًا كانت.

هنا يكون النجاح هو المعيار الأساسي للحُكم، ولو تأملنا كثرةً من مواقفنا وأفعالنا الحياتية لوجدنا أنها كانت ستلقى استنكارًا حال فشلها، لكن نجاحها –المرهون بالحظ في الغالب– يُحول الاستنكار إلى مدحٍ وثناء!

النوع الثاني

أما النوع الثاني فهو الحظ الأخلاقي الظرفي Circumstantial moral luck (بمعنى أن يكون المرء محظوظًا أو غير محظوظ وفقًا للظروف المُحيطة به)، والمثال الذي ضربه «ناجل» في هذا الصدد هو أتباع النازية في ألمانيا بعد صعود هتلر؛ لقد كانوا جميعًا وما زالوا يستحقون اللوم الأخلاقي، إما لارتكابهم أفعالاً إجرامية بغيضة أخلاقيًا، أو لسماحهم بارتكاب هذه الجرائم بدون بذل أي جُهد لمعارضتها وإيقافها.

على أنه لو أتيح لهؤلاء الأتباع التواجد في بلدٍ آخر سنة 1929، بعيدًا عن التوجهات والأوامر العدائية لأرباب الحُكم، فمن المحتمل أنهم كانوا سيعيشون حياةً مختلفة تمامًا، وما كان بإمكاننا وقتئذٍ أن نلقي بالقدر ذاته من اللوم الأخلاقي عليهم!

النوع الثالث

وأما النوع الثالث فهو الحظ الأخلاقي التكويني Constitutive moral luck (أي الحظ المُتعلق ببنية الشخص من حيث الشكل أو الطبع أو الشخصية أو الموهبة، تأثرًا بالجينات المتوارثة والتعليم والبيئة)، فقد يكون المرء مثلاً أنانيًا، أو جاهلاً، أو فظًا غليظ القلب، ومن ثم يكون عُرضة للوم الأخلاقي، في حين أن هذه السمات قد ترجع جزئيًا إلى البنية التكوينية!

النوع الرابع

وأما النوع الرابع والأخير فهو الحظ الأخلاقي السببي Causal moral luck، وهو مكافئ لمشكلة الإرادة الحرة إلى حدٍ كبير، ومؤداه أن أفعالنا محكومة بمتسلسلة سببية من الحوادث المُسبقة، وبالتالي فهي نتائج لحوادث غير خاضعة لإرادتنا ولا نتحمل مسؤوليتها!

المسألة هنا ليست دينية، وإلا لأشرنا ببساطة إلى أهم شروط تحمل المسؤولية الأخلاقية وفقًا للأديان، وهي الأهلية والنية وحرية الإرادة، لكن المشكلة هي صعوبة البت في هذه الشروط من بيئة نوعية إلى أخرى، وفي ظل عوامل يتخللها عنصر المصادفة، بالإضافة إلى صعوبة التعويل على عامل الحظ رغم وجوده، وإلا لأعفي الناس جميعًا من مسؤولياتهم الأخلاقية.. ما أقسى أن تكون فيلسوفًا!

اقرأ أيضاً:

وئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!

الفلسفة وسؤال العنف

السياج الأخلاقي القيمي وأزمة التربية العربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية