مقالات

حالة حرجة .. ممكنة الشفاء

حالة حرجة .. ممكنة الشفاء

كان أطفال الهند يشعرون بالنقص كلما عقدوا مقارنة بينهم وبين شبان الإنجليز، وكانت تسري بينهم أبيات من الشعر نظموها بالإنجليزية نترجمها في هذه الأبيات:

انظر إلى ابن انجلترا منتصرا مظفرا

يسطو على الهندي والهندي يشكو القصرا

لأكله اللحوم طال واستطال وازدرى

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ووقر في أنفسهم أنهم يكسبون الشجاعة والقوة، إذا نبذوا معيشتهم وأكلوا وشربوا ودخنوا، ولعبوا كما يفعل شبان الإنجليز.

سطور قليلة من كتاب العقاد (روح عظيم) أنقلها، لما وجدت فيها من شبهِ بين أطفال الهند وبين فئة غير قليلة من شباب بلادي، هذا الشبه هو الشعور بالنقص، المؤدي إلى  تقليد الطرف القوى.

نحن مصابون بحالة حرجة من تفشي الجهل والمرض والظلم، ربما لم تكن الأصعب في التاريخ، لكنها صعبة على أية حال، ولما نوجه نظرنا نحو الغرب، فنرى ظاهر المنتمين  للحضارة الغربية يملكون العلم، ويحترمون الحريات، ويقل عندهم الفقر والمرض، و ننبهر ببعض أفعالهم أو حتى قوانينهم الأخلاقية جدا! تكون النتيجة أننا  نشعر بالنقص.

السبب في هذا الشعور، هو المقارنة السطحية  بين حالنا الحرج وحال الآخر، الذي يبدو معافى.

هذه المقارنة  تدفعنا لالتماس التعافى من شعور النقص، بمحاولات تقليد الغرب في مظاهر قوته. نحاول التخلص من نقصنا، لكن لا نفكر في بناء أنفسنا من جديد! حتى لو قلدناهم فيما قرروا أنه مفيد، فمازلنا مقلدين ومازالوا هم أصحاب القرار، في أي شيء ينفع، وأي شيء يضر. فعلى سبيل المثال: لو قلدناهم في صناعة الهواتف الذكية مثلا،  فهل للمقلد أن يصنع الهواتف، بداية من موادها الخام، حتى تصل لمرحلة الهاتف الذكى ؟! ولو تكرم الصانع وباح للمقلد بسر الصنعة، فمن المقرر لغاية صناعتها ؟!

هذا هو الشعور بالنقص، الذي يدفعنا للتخلص منه بارتداء زي القوي مهما كان! وهيهات للمقلد أن يتخلص من جذور مرضه إذا استمر في التقليد.

إن الشعور بالنقص حالة نفسية غير سليمة، ولا تضمن لصاحبها فكرا سليما فعالا. لو كانت تفعل، ما قلدنا القوي لأنه قوي، ما اتجهنا لحلول التقليد في المظهر والغاية!

حالنا مؤسف، لكنه لا يستدعي أبدا شعورا بالنقص عن الآخر،  إنما الأولى به أن يستدعي شعورا أكثر دافعية لنا، يستدعي شعورا بالتقصير تجاه الحقيقة؛ حقيقة الوجود الإلهي، وحقيقة الإنسان العاقلة الساعية لكمالها، وكمال ما حولها.

الحقيقة التي تزن القوة وتحكم عليها، أهي قوة عادلة أم باطشة؟ فالقوة تعرف بالحق، كما يعرف الرجال بالحق، فبأي عقل صرنا نعرف الحق بالقوة؟!

إذن الشعور بالنقص، والمقارنة السطحية المسببة له، ليسا بداية طريق التخلص من حالة حرجة نعيشها ، إنما يزيدها تدهورا. وإذا كان البديل الشعوري الأحق والأولى والأنسب لنا، هو الشعور بالتقصير تجاه حقيقة الوجود، وحقيقة الإنسان، فما طريقة المقارنة الصحيحة والبديلة للمقارنة السطحية ؟

الآن، دعنا نقول أن أطفال الهند تخلصوا من شعور النقص عن شباب الإنجليز، وبدأوا فعلا في الشعور بالتقصير تجاه وطنهم المحتل، فقارنوا بين قوة المحتل والقوة التي يريدونها هم من أربعة أوجه:

الوجه الأول: الغاية من وراء هذه القوة

فوجدوا أن غاية المحتل هي الرغبة في السيطرة والنهب، أما قوة أطفال الهند فغايتها الحرية وعودة الحق.

الوجه الثاني: مظهرهذه القوة

فوجدوا أن قوة المحتل ظاهرة في قوة جسده، وقوة الوهم بأحقيته في أرض الهند، أما قوة أطفال الهند يراد بها أن تكون ظاهرة في قوة الجسد، وقوة يقينهم بحقهم في وطنهم.

الوجه الثالث: أسباب تحقيق مظاهر القوة

فوجدوا أن المحتل بسبب غايته الباطلة، يفعل ما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي، في سبيل تحقيق قوة الجسد، أما غاية أطفال الهند لأنها حقيقية والأخلاق حقيقية، فإن الوسائل غي الأخلاقية  (كمساعدة المحتل في احتلال بلد آخر مقابل الاستقلال مثلا)  مرفوضة في تحقيق القوة.

الوجه الرابع: طريقة استخدام هذه القوة

فوجدوا أن شباب الإنجليز يزدرون الآخر بقواهم، ويسطون عليه، أما أطفال الهند يريدون القوة لرد اعتداء المحتل، وردعه عن محاولات اعتداء محتملة بعد ذلك.

وبعد هذه المقارنة، كف أطفال الهند عن نبذ معيشتهم، وكفوا عن طلب القوة والشجاعة بالأكل واللعب، وعكفوا على طلب القوة الحقيقية، شريفة المنبع والمنتهى. بالتأكيد لم يكرهوا مظهر الجسد القوي، بل وجدوه ضرورة، لكن ضرورته عندهم بالتأكيد ليست تقليدا لضرورة القوة الجسدية عند المحتل.

طاب لي استخدام أطفال الهند رمزا معبرا عنا –شباب اليوم- وطاب لي استخدام الاحتلال الإنجليزي، رمزا معبرا عن الحضارة المادية. وإذا كان احتلال أرض الوطن طريقة احتلال ولّى زمنها، فلن تبخل حضارة المادة  بطرق احتلال جديدة، أقل ضررا لها، وأكثر مشروعية أمام ضميرالعالم المصطنع. ولعل شعورنا بالنقص نتيجةُ لاحتلال آخر؛ نتيجة لعقول مختلة احتلها الفكر المادي، فصعُب عليها توجيه النظر نحو حقيقة الكون وحقيقة الإنسان.

من الجمود رفض تقليد الآخر من الأساس، ومن الحماقة تقليد الآخر لمجرد أنه الأقوى، إنما من العقل أن نبدأ بتحديد الغايات أولا،  وبعد ذلك ننتقي من مظاهر قوة الآخر ما نحتاجه، ويناسب أهدافنا، وفي هذه الحالة لا يكون التقليد من أجل التقليد، أو من أجل التماشي مع القوى المادية في طرقها وأهدافها، وإنما يكون التقليد جزء من التفاعل الحضاري اللازم لبناء أنفسنا من جديد، إن كنا نريد!

حالتنا حرجة  بالتأكيد، لكن الرغبة في التقدم المادي، دون تحديد غاية أقيم من المادة هو انتحار للحالة. ولا سبيل للشفاء إلا بتحديد الغايات الحقيقية،  والسير وفقا لهذه الغايات، تماما كما كانت غاية أطفال الهند، هي حقهم في الوطن.

وأخيراً، هل الغايات الحقيقية ضعيفة ليكون بها الشفاءُ ممكناً لا مؤكداً ؟

لا، إنما وجدت التعبير بإمكانية الشفاء، ربما أقرب لعقولنا المحتلة بالفكر المادي، أو أقرب لأملنا الذى يفت في قواه  بين حين وآخر، ما نرى من تشوهات، وربما لأن أصحاب الحالة غير منتبهين كفاية لسوء الحالة أصلا.

التعبير بإمكانية شفاء حالة حرجة ، تعبير قريب من حالنا السيء، والأحق أن نقول: الحالة حرجة … شفاؤها واجب، إذا علمنا الغاية الحقيقية، والتزمنا جميعا طريق الشفاء الواضحة معالمها بوضوح الغاية.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.