أنا حر ما لم أضر ! ما مدى صحة هذه المقولة ؟ هل للحرية حدود وضوابط ؟
هل أنا حر ؟
في أول عهدنا بعلم النحو، كنا نجر الفاعل، فيردد معلمنا البشوش قولته: (يا سلام يا سلام) بنبرة مستنكرة لينبهنا إلى وجود خطأ ما، فنتذكر القاعدة النحوية (الفاعل مرفوع) فنتدارك الخطأ، ونتراجع عن جر الفاعل. لماذا لم نردد (إيه يعنى اللي هايحصل لما نجر الفاعل؟ احنا أحرار… حد هايتضر لو جرينا الفاعل؟!) هل المانع كان تفادي خسارة درجة الامتحان؟ أم طاعة معلمنا ؟ أم أن القاعدة قيد يكبح الحرية، قيد يكبح حريتنا وحرية معلمنا البشوش؟!
أنا حر
(أنا حر ) عبارة براقة جميلة فاتنة، فهل الحرية هي اللاقاعدة والعشوائية المطلقة؟ !
إن نظرة للإنسان وللكون، كفيلة للتأكد من استحالة العشوائية، فالنطق بـ( أنا حر ) من لوازمه حركة عضلات اللسان والشفاه بطريقة معينة، ولو تحركت هذه العضلات بعشوائية، لما نطقنا ( أنا حر )! والنطق بـ( أنا حر ) يمكن أن يكون مقدمة لأفعال كثيرة مستحيل أن يقبلها أحد، مثل ( أنا حر أقتلك عادي! ) كأن مجتمع البشر أحط من مجتمع الغابة أو (أنا حر أضر نفسي عادي) كأن الإنسان معزول عن المجتمع لا يؤثر فيه ولا يتأثر به، كأن الفرد وجوده وعدمه، أوسعادته وحزنه سواء بالنسبة للمجتمع!
(الحرية المطلقة مستحيلة، ويبدو أنها مضرة! إيه الحل؟! لقيناها خلاص..أنت حر مالم تضر)
أنت حر ما لم تضر!!
(أنت حر ما لم تضر) عبارة ناعمة لكنها خائنة؛ فهي تفتقر إلى شيئين، أولهما: تحديد المفعول به أي الواقع عليه الضرر.. هل هو الإنسان؟! هل الضرر جسدي أم معنوي؟! هل الواقع عليه الضرر يمكن أن يكون الحيوان أو النبات أو الجماد؟
وثاني ما تفتقر عبارتنا الناعمة إليه: تحديد المعيار الذي على أساسه نحكم بأن فعلا معينا ضرر أم لا؛ فمثلا لو أن دولتين (أ) و(ب) في حالة حرب وانهزمت الدولة (أ)، أليست الهزيمة ضرر من وجهة نظر المنهزم وبالتالي تكون ضد الحرية؟! ومن وجهة نظر المنتصر، أليست هزيمة العدو واجب؟!
في حالة كهذه ـ أو ما يشبهها على مستوى الأفرادـ يكون تحديد معيار مثل (الأفعال التي تحقق العدل هي النافعة والأفعال التي تنشر الباطل هي المضرة) وسيلتنا إلى حكم فاصل، فإذا كانت الدولة (أ) غاشمة فهزيمتها حرية، وإذا كانت صاحبة حق فهزيمتها استعباد.
من أين جئنا بـ(أنت حر ما لم تضر) الفاقدة للمعيار؟! من أين جئنا بهذا القالب البراق الذي يسمح لقائله أن يتبنى ما شاء من معايير، ثم يضع أفعاله المبنية على معايير خاطئة فى هذا القالب، فتبدو المعايير الخاطئة والأفعال المشينة حرية؟!
هذا القالب البراق يخدم أصحاب أي رؤية؟
إنه لا يخدم أبدا المقرين بالإنسانيةِ الساعية للكمال، والثوابتِ الأخلاقية، والحقيقةِ الواحدة الثابتة.
أين المعيار ؟
بل يخدم أصحاب الرؤية التي جعلت من المنفعة المادية، واللذة الجسدية غاية لوجود الإنسان، ونزعت عنه القيمة، وجردته من القداسة، وزينت له أن لا حقيقة سوى الواقع المادي المتغير، ومنه فقط نأخذ المعايير، معايير المنفعة ودوافع البقاء والصراع، كطريقة لتطور المجتمع الإنساني.
لكن تبين استحالة رصد كل جزئيات الواقع المادي، وبالتالي لا يمكن إدراك أي حقيقة كلية مطلقة، متجاوزة ماورائية، اعتمادا على رصد الواقع المادي فقط، وبالتالي حسب الجزئيات التي يرصدها كل واحد تختلف الحقيقة التي نتصرف وفقها، فيكون إيذائي لك من وجهة نظري حق وحرية، ومن وجهة نظرك استبداد، فليس هناك حقيقة واحدة أو معيار ثابت واحد نحكم به، والفيصل الحاسم في صراعاتنا -اللازمة لتطورنا طبعاـ هو القوة! … العبارة الناعمة الخائنة التي لا تخدم سوى أصحاب اللامعيارية، ونسبية الحقيقة، والنظر القاصرعلى الواقع المادي لمعرفة الحقيقة متجاهلين أي طريق آخر.
هل تُراها المعايير الصحيحة الثابتة والأخلاق الفاضلة قيد يكبح الحرية حقا؟! أم أنها خط أحمر يؤدى تجاهله إلى التخبط، وتجاوزه إلى انحطاط المجتمع الإنساني؟
مم يتحرر الإنسان ؟
نرى استمرار تحرر الإنسان من ظروف تقيده، مثل المسافات الطويلة بصنع وسائل النقل، ومثل الظلام بصنع المصابيح، وتَمكَّن الإنسان من الصنع عن طريق معرفته بالقوانين وطبيعة الأشياء، ثم اختيارالالتزام بالقوانين، فتمكن من الصنع وتحرر من قيد الظروف.
ويتحرر الإنسان من أحزانه بسبب فقدان شيء، أو شخص، أو بسبب ضياع فرصة للعمل، أو الدراسة، أو الزواج، أوالإنجاب أو ..أو.. عندما يعرف حقيقة إنسانيته المكونة من مادة ومعنى، وأن طبيعة المادة التغير والزوال، وطبيعة المعنى الثبات، فيختار أن يرتبط بالمعنى أكثر، فيسهل عليه التحرر من أحزانه.
ويتحرر الإنسان من أغلال الحيرة في أمر وجوده إذا كان عبثيا أم له غاية، عندما يعرف مثلا أن من طبيعته النقص، وبالتالي لا بد له من مسعى في حياته ابتغاء الكمال، فيختار الكمال: غاية وجوده، ويتحرر من الحيرة.
ويتحرر الإنسان من رذائله والغرق فى شهواته، عندما يعرف أن الرذيلة والشهوة المفرطة تحجبه عن غاية وجوده، فيختار تخليه عن الرذيلة، وتحليه بالفضيلة، واقتدائه بالصالحين، فيقربه من مسعاه. ويتحرر الإنسان من عجز العقل وحده، عن الوصول للكيفيات الصحيحة للعبادات أو المعاملات، عندما يعرف نصا إلهيا صحيحا يأخذ منه الكيفيات البريئة من تلاعب الأهواء، فيختار الالتزام بها اعترافا بعجزه، وضمانا للسعادة كفرد و مجتمع.
الإنسان ذو الإرادة الحرة
وتتحرر الشعوب من الاستعمار واستبداد الحكام، إذا عرفت بوضعها البائس، وأسباب الاستعمار والفساد والاستبداد، وانتبهت إلى نخبة أمينة واعية راغبة في الحق، فتختار الشعوب الالتفات حول نخبتها الأمينة، وتبدأ طريق التحرر.
الإنسان مخلوق حر له إرادة، يوجهها لتحقيق العدل أو الظلم، الخير أو الشر، فإن اختار الإنسان الحر أن يوجه إرادته لصالح الظلم والشر، فإنه يخالف بحريته البداهة التي تستحسن العدل والخير!. وإن اختار توجيه إرادته لصالح العدل والخير، فإن مهمته لن تتوقف عند هذا الاختيار العام، بل عليه أن يبقى حرا ليكون قادرا على توجيه إرادته، ووسيلته للبقاء حراً هي المعرفة.
إذا كان استحسان البداهة العقلية للعدل والخير، سببا في اختيار الإنسان الحر طريق العدل وجهةً لإرادته، فإن استحسان العقل وشغفه بالمعرفة الحقيقية، سبب في اختيار الإنسان الحر أن يلتزم بالمعرفة الصحيحة، وإذا كان الإنسان الحر يحكم بالبداهة العقلية أن العدل يجلب الخير للفرد والمجتمع، فإن نفس الإنسان الحر، يحكم بعقله الواعي أن المعرفة الحقيقية هي التي تنقذه من قيد الظروف، وبؤس الأحزان، وأغلال الحيرة، و مهاوى الرذيلة، وفساد الأهواء، وذل الاستعمار، وفساد الحكام؛ فكيف تَتأتَى المعرفة الصحيحة ؟
المعرفة الصحيحة ومفهوم الحرية
المعرفة الصحيحة تتأتى من حسن توظيف أدوات المعرفة، من عقل ونص وحس وتجربة، حيث نحفظ لكل أداة مكانتها المعرفية، لا تبرحها فتحل محلها أداة أخرى، غير صالحة لهذا المحل، ولا تتخطاها اعتداء على وظيفة خاصة بأداة معرفية أخرى؛ فمثلا لا يمكن بالتجربة أن نثبت أن النقيضين يجتمعان؛ فاجتماع النقيضين مستحيل عقلا، وهذا حكم عقلي بديهي لا يمكن للتجربة الصحيحة إثبات خطئه، كذلك لا يمكن للعقل وحده، دون إجراء التجارب أن يقول أن الحديد يتمدد بالحرارة.
الحرية ليست وضع الأمور كما نشاء، ثم انتظار نتيجة مشيئتنا الجاهلة المتهورة (يا صابت يا خابت) فهذا جهل، ولا حرية لجاهل. فهل للحيوان العاجز عن معرفة العدل من الظلم، حرية في اختيار أن يكون خَيّرا أو شريراً ؟!
الحرية أن أعرف العدل من الظلم … الصواب من الخطأ … القاعدة الصحيحة من التخمين والوهم، ثم أختار من بينهما؛ فإذا كنا نريد مجتمعا عادلا وإنسانا سعيدا، فإننا بحريتنا، نختار الالتزام بما عرفنا من حقيقة، وإن أردنا غير ذلك فنحن أحرار، و علينا تحمل مسؤولية الاختيار.
الآن…هل تبين لماذا كنا نتراجع عن جر الفاعل، عندما نتذكر القاعدة ولا نتمرد قائلين: (احنا أحرار إيه يعنى لما نجر الفاعل؟!)؟
لأن الحرية لا تعني التمرد الأحمق؛ فحماقة التمرد جهل لا حرية. ولأن التمرد على المعرفة الحقيقية النافعة، بحجة أننا أحرار-ونحن فعلا أحرار- معناه توجيه إرادتنا لصالح الظلـم.
اقرأ أيضاً:
ما هو طريق الإنسان الحر نحو السعادة ؟
هل الحرية تعني أن أفعل ما أشاء ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.