جاليليو وأينشتاين .. درس لنا في تحدي عجلة التاريخ
(1) عجلة التاريخ
في الولايات المتحدة الأمريكية في ماضٍ ليس ببعيد ، كانت العبودية نظاماً اجتماعياً رسمياً تقره الدولة كما يذكر التاريخ وتؤيده الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي، قبل أن تتقدم عجلة التاريخ إلى الأمام قليلا لتجعلنا ننبهر بعموم الألمان وهم يهتفون ويتغزلون بأدولف هتلر، كلسان حال عموم الطليان وهم يهتفون ويتغزلون بموسوليني، تتدافع الأمثلة إلى ذهني بعشوائية وكثرة تجعل بعضها يتساقط من ذهني قبل أن أشرع في كتابة المقال،
ولكن… لنعود إلى الوراء بعجلة التاريخ لنرى المزاج العام للبشرية كيف كان، إن أغلبية البشرية كانت تظن أن مرض الصرع هو عبارة عن روح شريرة تلبس المريض وليس خللاً في كهرباء المخ، قبل أن يتفق رجال أثينا على قتل سقرط الحكيم، ثم اعتنقت البشرية فكرة ساخرة بمعايير سخرية عالمنا اليوم وهي أن الأرض مركز الكون، حسبي أن رجلاً واحداً في ذلك الزمن البعيد لم يقتنع بتلك الفكرة وهو جاليليو، ولكن ما أسوء مصير جاليليو!
والحاضر أيضا يهدي ذهني بالكثير من الأمثلة ولكن سنعرض منها الهادئ الذي لا يثير غضب جمهور حق الشهرة!
(2) العجلة مستمرة
“كل الناس تقول هذا، كل الناس تفعل هذا، إذاً فهذا صحيح”، هذه هي القاعدة التي تحكم أفكار معظم الناس، يمكنك أن تنتزع هذا الأمر من مجرد الملاحظة والمشاهدة، في بيت جارك أو خالك أو صديقك ستسمع في موسم الامتحانات صوت أب زعاق يريد إجبار ابنه على التقدير العالي ليلتحق بكلية الطب أو الهندسة،
هذ الرجل يقوم بذلك لأن كل الآباء تقوم بذلك، ولأن الطب والهندسة اشتهرا بحسن السمعة، في نفس هذا البيت في غرفة أخرى أو في عالم موازٍ قد تجد الأم والابنة تشاهدان التلفاز ولكنهما يختلفان على ماهية المسلسل الذي سيشاهدانه، فتقنع الابنة أمها بحذاقة الأعور مع الأعمى بضرورة مشاهدة المسلسل التركي أو الهندي لأن كل الناس تشاهد التركي أو الهندي الآن، وأما العربي فهو ساكن داخل خبر كان،
لنعود إلى الأب وابنه، بعد أن تأكد الأب من فشل الابن وتعايش معه كإنسان فاشل جلسا في مصالحة وصفاء ليشاهدا نفس التلفاز الذي تركتاه الأم والبنت وذهبتا للتسوق، فيقنع الابن أباه بحذاقة الأعور مع الأعمى بأن يتابعان الإعلامي الأديب الماهر؛ فقط لأن برنامجه يحقق أعلى المشاهدات، والابنة في السوق تريد إقناع أمها بشراء ماركة معينة رغم غلوها؛ فقط لأن هذه الماركة مشهورة يستخدمها كل الناس،
وهن في الأساس في السوق لأن العيد قد اقترب، وثمة شيء ما جديد يجب شراؤه اقتضاءً بالأخريات، وحاول الأب إقناع ابنه بانتخاب مرشح ما؛ فقط لأن استطلاعات الرأي تشير إلى نجاحه، وهو سينجح سينجح، سواء انتخبناه أو انتخبنا غيره، فمن الأحسن أن ننتخب الناجح، لأن الناجح يرفع يده ومن الأفضل أن نكون بجوارها حتى لا تهوي على أمهات رؤوسنا…
والأب يريد من عريس ابنته شراء كافة الأجهزة الكهربائية المنزلية وإلا فسيتحول الناس من حوله لآكلي لحوم بشر ويأكلون وجهه، يريد الأب ذلك في نفس الوقت الذي يقنع فيه ابنه بأن يوقع بابنة خاله في حباله ويكتسب ثقة خاله الغني ليعطف عليه خاله ويتكفل بزواجه من ابنته، كل الناس تقول أن الدنيا غابة يا ولدي والحياة فرص ويجب أن نقتنع بما يقتنعون… إنها حقا عائلة محترمة
(3) طبيعة النفس الإنسانية
ربما علينا فعل نفس العادات الرائجة في المجتمع، نفس التصورات التي يتبناها عموم الناس على مر التاريخ ، نسير في اتجاه دورانهم، نتبنى نفس آرائهم، نتكلم بنفس طريقتهم، نلبس نفس نمط أزيائهم، ربما علينا فعل ذلك إذا أردنا الوقوف في المنطقة الآمنة!
هل لدينا ميل غريزي للسير مع الأغلبية؟
الإجابة نعم، تجارب علم النفس السلوكي تقول أن الإنسان يشعر بضغط الانصياع والاستجابة للأغلبية إذا اجتمعت على فكرة معينة أو سلوك معين، ومن منظور فلسفي يقيني فالإنسان كائن اجتماعي يميل لمعاشرة بني جنسه، لفظ إنسان مصدره اللغوي هو أنس، إنسان يأنس بالآخرين… ومن منظور فلسفي آخر فغاية الإنسان في كل تحركاته ومتاعبه ومجهوده هي بلوغ الراحة باختلاف أشكالها، الإنسان يحب الراحة…
والسير عكس معتقدات وسلوكيات المجموع يهاجم فطرة الإنسان، فطرة الونس والاجتماع وفطرة حب الراحة لأن الإنسان الذي يسير عكس جموع الناس يتعرض لهجومهم، أن تفعل وتقول عكس ما يفعله ويقوله الآخرون هي رسالة لهم مفاداها “أنتم على خطأ في ثقافتكم وعاداتكم وآرائكم وسلوككم” وهذا كفيل بأن يجعله في مرمى سهام نبذهم وكرههم ومقاطعتهم ونقدهم وربما اعتدائهم الجسدي وهذا يحدث بالفعل ويشهد على ذلك التاريخ ، هم يقومون بذلك لأنهم يدافعون عن نمط حياتهم فلا طاقة لهم في أن يشككهم أحد في نمط حياتهم، وسنتعرف على سبب ذلك في الفقرة القادمة… السير عكس المجموع يسلب من الإنسان الأمان الاجتماعي ويجعله وحيدا.
(4) سيكلوجية الجماهير
عامة الناس ليسوا نخباً فكرية، كما عرض جوستاف لوبون في كتابه “سيكلوجية الجماهير”، الناس لا طاقة لهم على التفكير، لا طاقة لهم على بناء تصورات كاملة للأمور، هم يميلون إلى الحكم، لديهم سرعة في الأحكام ولا يستطيعون التروي والتمهل إلى أن يقوموا بعملية تفكير كاملة ناجحة، الناس يكفيهم أضعف الأدلة لكي يقتنعوا بفكرة ما،
لا طاقة لهم على البحث عن الدليل القوي، الجماهير ليسوا أهل برهان، ولذلك يسهل على أصحاب المنفعة والسلطة إقناع الناس بأضعف دليل، شرط تغليف هذا الدليل بالخطابة والكلام الحماسي أو العاطفي أو الترهيبي خصوصاً إذا كان هذا الكلام يخرج من رجل ذي هيبة وسلطة… وبعدهم عن التفكير المنطقي وجهلهم بالتاريخ هو الذي يجعلهم يتعصبون على المختلف ويرفضون قبوله.
ومثال على ذلك، قد تجد معظمهم يؤمن بأن ساكني المدينة الكذائية هم بخلاء، فكرة قد يتوارثها جيل وراء جيل على مر التاريخ عن سكان هذه المدينة، وعندما نعود في الأصل، فأصل الحكاية قيام شخص أو أكثر بالتعامل مع عدة أشخاص من سكان هذه المدينة، فوجدوهم بخلاء، فأشاعوا الأمر … هل تعاملوا مع كل أهل المدينة لكي يحكموا عليها بالبخل؟،
بالطبع لا هذا صعب ولا طاقة لهم على ذلك، ولكنهم يميلون إلى الحكم السريع ولا طاقة لهم على التمهل لحين بناء تصور صحيح ودليل قوي، هم لا يستطيعون الجلوس دون أن يكون لديهم أحكام عن كل الأشياء ولذلك حكموا هذا الحكم غير المنطقي، والأمثلة كثيرة…
عقلية كهذه عندما نجد شيوع فكرة أو رأي أو عادة في أوساطها فيجب علينا التمهل والتفكر والتحليل المنطقي لهذا المشهور المنشور، إن صح فنتبعه، وإن خطأ فماذا نفعل؟ هل نعاديه فنعادي فطرتنا معه؟
(5) مذهب أينشتاين
أينشتاين كان مناصراً لمذهب اللا عنف في التغيير، في حين أن جماعة من العلماء أنصار للعنف وأصحاب لشركات السلاح وبنوك القرض اليهودية أرادوا تقليل تأثير موقف أينشتاين فكتبوا كتاباً وأسموه “100 عالم ضد أينشتاين” وهذه التسمية أرادوا من خلالها إقناع الناس عن طريق حق الشهرة وترهيب أينشتاين، ولكن أينشتاين ظل على موقفه وقال جملته الشهيرة “لو كنت على خطأ لكان عالم واحد يكفي”
موقف أينشتاين الثابت الرجولي يدعو إلى التأمل، لماذا عرّض نفسه للنقد اللاذع والتهديد والوحدة، ثمة شيء آخر وجد فيه أينشتاين ونسه واجتماعه وراحته وسعادته، الحق، حب الحق والأُنس بالحق والراحة مع الحق،
عندما نوجه كامل طاقاتنا النفسية وغرائزنا للحق تولد الحرية الحقيقية في نفس الإنسان ويولد معها الانسجام واحترام الذات، وتولد اللذة والسعادة من رحم الشغف، الشغف بالحق، لأن العارف بالحق يعرف أنه جنة السعادة وقِبلة النشوة الحقيقية، الحق جميل ويترك أثراً سحرياً في النفس، كل ما على الإنسان فعله أن يتحدى لذته البهيمية ويروضها ليرتقي لاستقبال تلك اللذة العقلية
وختاماً حذارِ من الثنائية، لا يعني رفض المشهور العيش بمبدأ “خالف تُعرف”، نحن لا نرفض المشهور لذاته وإنما نرفضه لأنه خاطئ، وهذا لا يمنع وجود أمور مشهورة صحيحة ويجب أن نطبقها.
اقرأ أيضا:
أن نكون الشيخ ” محمد كُريم ” – بطل المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي