أمي، لا أستطيع حفظ هذا لتعبير! – 3 يكونون مشكلة التعليم
أزمة التعليم
هناك أمثلة كثير تعبر عن وجود أزمة التعليم ، مثل طفلة عمرها عشرة أعوام؛ تأتي شاكية لوالدتها أنَّها لا تعرف كيف تتعامل مع مادة الإنشاء “التعبير” بالمعنى الدارج حاليًا في مدارسنا. تتململ من مُعلّمها الذي أعطاها مجموعة من الأفكار “العناصر” تحت مجموعة مختلفة ومتنوعة من الموضوعات.
لا تفهم ماذا يعني التعبير؟ لا تعي لماذا أملى عليهم هذه الأفكار، ولا تعلم كيفية توظيفها في امتحانها القادم! وظلت تردد: “لا أدري ماذا أحفظ! لقد حفظت موضوع النظافة أما باقي الموضوعات لا أدري كنهها! “
شاب يدرس في المرحلة الثانوية ويقرأ بصوت عالٍ مطلع قصيدة لـ: أحمد شوقي الشاعر المصري المعروف:-
“اختلاف النهار والليل يُنسي أذكرا لي الصبا وأيام أنسي، وصفا لي مُلاوة من شباب صُوّرت من تصورات ومسِّ.”
إلى أن سأله المُعلِّم عن العاطفة الشعورية المُسيطرة على الشاعر في قصيدته، والجدير بالذكر أن الشاعر قد تمَّ نفيه إلى الأندلس من قِبَل الاستعمار الغربي في مصر آنذاك، ويشعر أحمد شوقي بالغربة والحنين إلى مصر. المهم؛ لم يُجب الطالب مُعلّمه عن العاطفة الشعورية وعلَّق ساخرًا ” لقد تم نفي أحمد شوقي، وقد ألف قصيدة لنحفظها وفقط! ولا أدري ما هو وجه الاستفادة من ذلك، ولا أهمية معرفة العاطفة الشعورية المُسيطرة عليه”
ما المشكلة؟
لقد اعتادت الطفلة على نظام التعليم بالتلقين؛ فشعرت بصدمة عقلية حينما قيل لها؛ عبِّري، انثري أفكارك على الورق، أو اقترحي حلول لهذه المشكلة. أصيبت بالصدمة أو ربما لم يساعدها المُعلم على كيفية الولوج إلى عالم الأفكار بالرغم من أنَّ الإنسان منطقيِّ التفكير وعقله غير خاوٍ من المعاني، واخترع لغةً تُسهل وتُيسِّر توصيل أفكاره إلى غيره.
فعلم الإنشاء ” التعبير” باختصار هو القالب الذي يَصُب فيه الإنسان أفكاره بلغة سليمة، وهدفه هو تعويد المتعلمين على حسن التفكير وجودته، وللتعبير ركنان أساسيان : معنوي، ولفظي. أما المعنوي فهو الأفكار التي يُعبّر عنها. وأما اللفظي فهو الألفاظ والعبارات التي يُمكن التعبير بها عن الأفكار. والركنان مرتبطان ببعض.
فالعالم المحيط بالنسبة للطفلة ينقسم إلى عالمين؛ عالم ما قبل المدرسة، وعالم المدرسة. يبدأ الطفل حياته ويساعده” الفضول” على الاستكشاف والتعلم واكتشاف أشياء جديدة، وبالتالي تتولد لديه حالة من ” حب المعرفة” ولا يكتفي بإجابة واحدة وإنما يبحث ولا ينتهي إلا عندما يصل إلى مرحلة من التيقن أو حالة من الرضا بعد أن تمَّ إشباع فضوله.
المدرسة
أنشأ الإنسان بعبقريته “منظومة المدرسة” مكان منظم ومُعد لعملية التعليم يُحاول أن يقدم الفرصة لبعض الإجابات التي تدور في العقل البشري. على مر تاريخ البشرية؛ تراكم كَمُ رهيب من المعلومات ولأن الإنسان قد أدرك أن العلم هو أعظم ميراث على الإطلاق وأبقى واحد؛ فقد أخذ يُدوِّن ما وصل إليه عن طريق العقل، أو الخبر، أو التجربة في الكتب التي قد بدت بدائية في البداية ولكنه على مختلف العصور لم يتوقف عن تدوين ما وصل إليه حتى دوَّنها على لوح رقميٍّ.
ولأنه يعلم في قرارة نفسه أن هذه الكتب ليست النهاية وإنما البداية وفقط؛ فأخذ على عاتقه تدوين البدايات التي وصل إليها، كأنها لَبِنَات لبناء صرح مشيد لبناء حضارة تخدم الإنسانية جمعاء. فالكتب ما هي إلا حصيلة ما توصل إليه العقل البشري بمعارفه المختلفة في زمن ما. ولن يُقدِّر ما في هذه الكتب وما تحويه إلا العقل البشري. فأعد المدرسة والتي أثاثُها العقول (التلاميذ) لتستقبل بنهم شديد ما تحويه هذه الكتب، وليوقظوا العقول الراكدة فيها. فالكتب مالم تجد من يقرأها فقدت أهميتها وجمدت المعرفة واضطر الإنسان إلى أن يبدأ من جديد.
1 التلقين كارثة
فنحن دائمًا نشكر القدماء على ما قدموه لنا من معرفة وحفظها لنا؛ حتى لا نُعيد الكرة ونبدأ من جديد وتنتهي أزمة التعليم . أما الآن نأتي إلى الإشكالية التي نوَّد الحديث بخصوصها؛ وهي كيفية التعامل مع هذا الإرث المعرفي الضخم وكيفية تناوله بداخل مؤسسات التعليم بمراحلها المختلفة. مشكلة كبرى يسلكها المعلمون دون دراية أو بدراية في بعض الأحيان وهي التّلقين! ففي المرحلة الابتدائية يبدأ التلاميذ بفقد العقلية المتسائلة تدريجيًا بسبب أنَّ المعلَّم يدرِّب التلميذ على القدرة على اجتياز الامتحانات فينصب اهتمام التلميذ على الحصول على الدرجة النهائية فيهتم بالكم ويهمل الكيف وتبدأ اول خطوة في أزمة التعليم !
يلملم المنهج بأكمله في ذاكرته الصغيرة حتى يحصل على الدرجة النهائية، ويستحثه الخوف من والديه ومعلميه؛ ففي الفصل الدراسي يوجد المعلم الذي سيبطش بالطالب إن لم يُسمع الدرس الحصة القادمة، وفي البيت والداه يترقبان النتيجة بتحفز حتى يفتخروا بابنهم المتفوق الذي حصل على الدرجات النهائية! ويتكرر نفس السيناريو في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
ولعل طالب الثانوية يبدأ بالانتباه حينما يسأله بعض المعلمين المغلوب على أمرهم اللذين تم صرعهم تحت أسلوب التلقين، وجهودهم في إسقاط هذا الأسلوب تبوء بالفشل لشدة أصحاب هذا التيار ، فحينما يسأله المعلم سؤالا ليستكشف عقله؛ يقابله الطالب بالسخرية والتعجب فهو بطبيعة الحال لم يعتد هذا الأسلوب منذ نعومة أظفاره.
2 الخوف
الجامعة؛ هذا الصرح العلمي الشامخ الذي يستقبل الشباب من كل حدب وصوب والذي من المفترض أن يقوم بإعداد الطلاب إعدادًا جيدًا لخدمة المجتمع في مختلف التخصصات والمجالات مثل التعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة. هذا المكان يستقبل كل عام آلاف الطلاب، ما هي صفاتهم؟ إنهم أفراد مصابون بالخوف من الفشل، تحصيلهم المعرفي ضئيل للغاية لأنهم مقلدون، نظرتهم ضيقة وهدفهم ركيك للغاية، ثقتهم بنفسهم ضعيفة فهم لم يعتمدوا على نفسهم من قبل، مستسلمون لا يناقشون ولا يبررون، فيتقبلون أى فكرة تُوجَّه إليهم، فهم لم يُعملوا عقولهم من قبل هم مجرد نسخ أخرى من الكتب التي حفظوها. فإنجاز هؤلاء القوم هو مجرد نسخ الكتاب الذي اشتروه من قبل ولكن في عقولهم!
الآن، عندما يَعُد طالب الجامعة “بحثًا” ما أو إذا أراد أن يناقش رسالة الماجستير؛ يتم إسناد مادة الرسالة له من قبل أستاذه بدلًا من أن يختارها الطالب بنفسه. فالأصل هو أن قضية ما لدى الطالب قد أُشكلت عليه؛ ويريد أن يجد لها حلًا أو يستوضح أبعادها. ولكن ما يحدث أن القضية تكون مُعدَّة ومهيَّأة للطالب”تعيس الحظ” الذي سيقبل بها بالإجبار حتى وإن لم تكن تستهويه!
فلا مجال هنا للاختيار؛ بل لابد أن يستكمل مسيرة التقليد الأكاديمي ويعدّ الرسالة التي ستُكلَّل بالتراب على أرفف مكتبة الرص والتقليد بجانب أخواتها من الرسالات السابقة والتي تمَّت على نفس الوتيرة. فكيف يكون لدى الطالب رؤية نقدية وهذه الرسالة لا تستهويه من الأساس؟ بل إن أساس هذه الرسالة هو الطاعة العمياء لأستاذه والخوف من عدم نيل درجة الماجستير والدكتوراة!
3ثلاثية أزمة التعليم
فإننا نترجم ليس فقط حين نترجم، ولكننا نترجم حتى حين نؤلف، وذلك بسبب غياب الرؤية النقدية كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله.
وعندما نبحث عن النخب المُعدَّة للمجتمع؛ نجد مدرس التاريخ الذي لا يدري شيئًا عن الهُويّة والحضارة، نجد المفكر الذي ينساق وراء الأفكار المستوردة والذي يُسهل الغزو الحضاري إلى مجتمعه، ونجد الطبيب الذي تحوَّل إلى تاجر وقد انسلخ من إنسانيته!
تظهر الآن مؤسسات تعليمية قد انتبهت لفداحة أسلوب التلقين كوسيلة لعملية التعليم وتحاول تغيير هذا الأسلوب لأفضل يستخدم عقول الطلاب الاستخدام الأمثل ولكن هذه المؤسسات وقعت في خطأين جسيمين؛ فهي تطبقه على العلوم الطبيعية وفقط وأهملت العلوم الإنسانية، كما أنها تتخذ المال كوسيلة لتحقيق غاية التعليم وبذلك يتم تغييب العدالة في منح جميع الطلاب نفس فرص التعليم، ويتم التخلي عن العقول الشغوفة لعدم امتلاكها المال للتعلم، فيقتصر التعليم المُتميز على أصحاب المال وفقط!
تُرى ماذا سيحدث إذا اختفت ثلاثية أزمة التعليم {التلقين، الخوف، اقتصار التعليم المتميز على أصحاب المال فقط} من مجتمعاتنا؟!
اقرأ أيضا:
جفاء ضد الوالد :اعتذارك غير مقبول يا أبي !
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.