قد نسمع كثيرًا عن ضرورة أن يسيطر الإنسان على نفسه، وألا تحركه أهواؤه كالورقة بلا إرادة تتقاذفها الريح! وأنّ الإنسان لن يحقق أي نجاح أو تقدم في حياته ما لم يتحكم في نفسه وجسده ويأخذ زمام المبادرة. فما هو تهذيب النفس؟ وكيف يكون؟ ولأي غاية؟ هذا ما سنحاول أن نلقي عليه نظرة عقلية سريعة هنا.
والبحث في هذا الموضوع بشكل كلي عام يمكن أن يقوم به العقل وحده، حيث أن منطقة عمل العقل وحده ودون الاستعانة بأدوات أخرى هي الكليات. أما البحث في الجزئيات يحتاج فيه العقل إلى الاستعانة بأدوات معرفية أخرى.
وسننظر في الجزء الأول من هذا المقال في بعض المقدمات عن تهذيب النفس، ثم ننظر لتهذيب النفس بشكل إجمالي في الجزئين التاليين.
ما هو الإنسان ؟
ونبدأ أولًا بالنظرة العقلية لحقيقة الإنسان، فلا يمكن أن نفهم تهذيب نفس الإنسان دون أن نفهم ما هو الإنسان؟ وما هي نفسه؟
وبالنظرة العقلية للإنسان نجده يمتاز بأنه يتكون من جانبين: جانب مادي؛ هو جسده أو بدنه. وجانب معنوي غير مادي أو مجرد عن المادة؛ هو عقله أو روحه.
وقد تعلقت الروح بهذا الجسد لأجل أن تستعمله للوصول لكمالاتها بالاختيار، حيث اقتضت الحكمة الإلهية وجود هذا الكائن المختار. فالإنسان ليس روحًا بلا جسد كالملائكة الكاملين بالفعل، ولا هو منغمس في المادة كالحيوانات. وهذا ما يجعل له القدرة على أن يختار أن يتكامل حقًا أو لا يتكامل.
وتستعمل هذه القوة المجردة الجسد في رحلة تكاملها هذه. فتستعمله لأجل اكتساب العلم؛ بأن تعلم أولًا العالم المادي حولها، ثم تنتقل منه إلى ما وراء المادة. وتستعمله من أجل العمل والسلوك الذي ينعكس عليها باكتسابها الملكات الأخلاقية. فكمالات الإنسان الحقيقية هي كمالات روحه وعقله، والتي تنحصر في العلم بالحق واعتقاده، والعلم بالخير والعمل به.
القوى المدركة والقوى المحركة
واكتساب الإنسان لهذا العلم يتم عبر مجموعة من القوى المدركة: الحس والخيال والوهم والعقل.
أما عمل الإنسان فتحركه قوى ثلاثة؛ هي الشهوة والغضب والعقل. فلكيلا يهلك هذا الجسد ويبقى حيًا وسليمًا كي تستعمله الروح في رحلتها للتكامل؛ وُضعت فيه قوتان غريزيتان، هما الشهوة التي تحركه كي يجلب ما ينفعه؛ والغضب الذي يحركه كي يدفع عنه الضرر. فهما قوتان لحفظ الجسد. ويقوم العقل بإدارة هاتين القوتين وهذا الجسد.
وعندما يدرك الإنسان بإحدى قواه المدركة شيئًا؛ ينبعث الشوق إليه إن كان فيه كمال، أو النفور منه إن كان يؤدي لنقص. فتتحرك القوى المحركة في اتجاهه إن كان هذا الشيء خيرًا لها، أو تبتعد عنه إن كان شرًا.
الغاية الأسمى: معرفة الحق
ولكي يعرف الإنسان الحق ويعتقده، أي يقوم بالخطوة الأولى في طريق تكامله الحقيقي، فإن أتم طريقة مؤدية لذلك هي “البرهان العقلي” كما هو مثبت في محله في علم المنطق، وهو المعتمد على مقدمات يقينية وبديهية ليصل لنتائج يقينية وحق. وقد يُصدّق ويعتقد البعض بالحق بطرق أخرى غير البرهان، بأن يتفق أو يصادف أن تكون ما تدعو إليه هذه الطريقة هنا مطابقا لما وصل إليه البرهان وفي طول الحق وتابعًا له. فمن أمثلة ذلك التصديق الجدلي، والتصديق بالخطابة أو الموعظة. أما القوى الوهمية والخيالية فتحركهما الأمور الخيالية، والألحان والأوزان.
ومعرفة الحق تبعث في الإنسان الشوق له، والرغبة والإرادة في السعي إليه.
وعندما تنظر القوة العاقلة في الكون حولها باستعمال البرهان للبحث عن الحق؛ تجد أن له خالقًا وبارئًا، وأنه سبحانه له الكمال المطلق، وأن هناك عالمًا غيبيًا علويًا فوق هذا العالم المادي ووراءه. وتستدل على أن كمالها الحقيقي وسعادتها في الارتقاء نحو هذا العالم، عالم القيم والمبادئ، عالم القدس، وفي قربها من مبدأ الوجود سبحانه. وتشتاق وتميل لهذا الكمال وهذا العلو، والذي تحققه -كما سبق- عن طريق معرفة الحق واعتقاده، ومعرفة الخير والعمل به.
فالغاية الأسمى للإنسان؛ هي طلب الحق الأول سبحانه لا لشيءٍ سواه.
تهذيب النفس رياضة
والاعتقاد يؤثر على السلوك والملكات الأخلاقية، فالمعتقد بقوته وغناه وعدم حاجته لأي أحد؛ سوف يصاب بالكبر، وسيقوم بسلوكيات تختلف عن المعتقد بعجزه وفقره مثلا؛ وهكذا.
ولكي يقوم الإنسان بعمل الخير وتستمر نفسه في رحلتها للتكامل الحقيقي؛ يجب أن تسيطر القوة العاقلة على باقي القوى، وأن تهذبها وتروضها، فالإنسان المنسحق لرغبات نفسه وجسده لن يستطيع -كما سبق- تحقيق أيّ تقدم. وهذا ما يعرف بتهذيب النفس أو رياضة النفس أو ترويض النفس.
لكن كيف تتم هذه الرياضة؟
اقرأ أيضاً: