إصداراتمقالات

تكاملية الفلسفة

التنوع الفلسفي

ارتسمت الفلسفة بألوان وأطياف كثيرة متباينة ومتداخلة. أسهمت في نموها وتكاثرها المجهودات البشرية على مر العصور ومنذ فجر الإنسانية. فالإنسان متفلسف بطبيعته، فهو يرفض أن يكون وجوده مجرد رحلة عابرة، لا يستقي منها المعرفة عن نفسه أوعن الوجود الخارجي والهدف منه. فهو دائم التفكير في الواقع يحاول تفسيره بما أتيح لديه من خبرات وتجارب مع الواقع. فكانت الفلسفة نتيجة أو ثمرة هذا التفكير، فكانت علم تفسير الواقع بالواقع.

تنوعت الفلسفات بتنوع الجغرافيا والزمن والظروف السياسية والاجتماعية المختلفة. فنجد التاوية التأليهية تمتزج في الشرق الآسيوي مع المدنية الكنفوشيوسية. بينما ظهر التصوف البوذي كتطور فكري عن الهندوسية في الهند. ولا شك من أن القبائل الأمريكية سواءً الشمالية أو الجنوبية كانت لها فلسفاتها الخاصة عن الوجود والتي لولا الغزو الغربي السحق المتعمد لها لكان لنا فكرة أكثر عمقا عن تلك الفلسفات. ولكن هذه المجموعات أنتجت من الحضارة ما لا يضع مجالا للشك أن فكرا موحدا قد نظمهم ليستطيعوا إنتاج هذه الحضارة. واشتهرت في بلاد فارس الزرادشتية والمنانية قبل أن يدخل إليها الإسلام.

وبالأهم اشتهرت فلسفة الإغريق بفرسانها الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو) والتي ورثها عنهم فلاسفة العرب فأتقنوا تدوينها ونقحوا أبحاثها وأعادوا تقديمها في قالبين متميزين: القالب المغربي المحافظ وكان أشهر أعلامها ابن رشد والقالب المشرقي المجدد والتي اشتهر فيهاا بن سيناء وترأس أعلامها بعد أن استقى معرفته من تراجم وأبحاث الفارابي من قبله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحدة المضمون والهدف

إن كل هذه الفلسفات بكل هذا المزج والتنوع والتفاعل الثقافي والحضاري هي في محصلتها الإرث الإنساني الذي ورثناه عن أجدادنا. هذا الإرث هو نتيجة سعيهم المتواصل لتفسير وجودهم أو لتفسير الوجود بصورة عامة في محاولة للبحث عن الطريقة المثلى للتعامل في ومع هذا الوجود. وإن هذه السمة المشتركة بين كل تلك الفلسفات المتباينة هي حجر الأساس الذي بنيت عليه تلك الأصرح الفلسفية العملاقة. فالمنطلق واحد والمضمون واحد إجماليا والهدف واحد. فالمنطلقات الأساسية لكل تلك الفلسفات كانت الوجود الخارجي والذهني أو العقل والواقع والتفاعل بينهما. وما ينعكس منهما على الألفاظ واللغات (الوجود اللفظي والكتبي).

وأما المضمون العام لكل تلك الفلسفات فكانت الإطارات العامة الثلاثة لعلم الفلسفة. فالفلسفة تبحث إما في المعرفة وقيمتها أو في الوجود وحقيقته أو في القيم الأخلاقية وأهميتها. وكل تلك المباحث كانت تهدف نحو تحقيق الغاية العليا لوجود الإنسان وسعيه وهي سعادة الإنسان. فكانت السعادة هي رأس هذا الهرم الشامخ وتكامله.

الاستغلال النفعي والتباين الظاهري

ولما كانت الألفة والوحدة بين تلك المذاهب الفلسفية هي الأساس والجوهر الحقيقي لها كان لابد من التعجب من الواقع الخارجي لتلك الفلسفات كمذاهب حياتية إنسانية. فإن على عكس طبيعتها المتجانسة المتسقة ولو كليا فإنها عندما انعكست على واقع الإنسان أدت للتناحر والتنافس والتحارب. فتحول كأس السعادة لخنجر التعاسة في جسد الإنسانية. أو هكذا يريد البعض أن نتصور الفلسفة إما جهلا أو إغراضا، فماذا جنينا من وراءها غير الأسى والحرب والدمار؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن المحلل المدقق للتاريخ وللتجارب الفلسفية البشرية يجد أن تدخل الرغبات والشهوات الإنسانية في التطبيق كان مدخلا لتحوير وتكييف الرؤى الفلسفية التي أنتجتها الإنسانية وفق الغايات والمنافع المرجوة. وهو قلب للموازين وعكس للآيات فبدلا من أن تكون الأفكار والموازنات العقلية هي الأساس الذي تبنى عليها موازين النفع والضرر، قرر البعض أن تكون الأهواء والرغبات والشهوات هي الأساس لتحديد المنافع ثم تأويل المذاهب الفلسفية وفق تلك المنافع. فأصبح الخادم سيدا والسيد خادما، وأصبح العقل تحت الشهوات بعد أن كان فوقها ومسيطرا عليها.

وتلك النظرة النفعية للفلسفة والتسخير النفعي لها هو في الواقع ما أدى للكارثة. كالاستخدام الخاطئ للسكين. فكل نفعي حاول تسخير الفلسفة على النحو الذي يحقق رغباته المريضة فكان هذا أكبر ظلم للبشرية، لأنه لم يحرم البشرية فقط من كأس السعادة ولكنه أيضا لوث منبع السعادة بنفعيته الخبيثة. فحتى وإن استحصلنا على الكأس مرة أخرى فالمجهود المطلوب لتنقيح النبع من التلوث ضخم وكبير قبل أن يمكن لنا أن نشرب منه ثانية. واستشهد هنا بقول لسقراط في محاورته مع جورجياس “إن ممارسة الظلم أكثر شرا من العيش تحت وطأة الظلم”. فالذي شوه جسد الفلسفة الطاهر بأغراضه النقعية الخبيثة سبب للبشرية ألما أكثر من الذي استسلم لهذا التشويه وعانى تحت وطأته.

النظرة الغربية التجزيئية

فالنفعية مثلا اختزلت كل تعاليم كونفوشيوس الأخلاقية والتناغمية بين العقل والقلب والجسد فقط إلى علمانية أو مدنية وذلك بفصلها عن منطلقاتها وأهدافها الأصلية. فهي في الأصل سعت نحو بناء الإنسان الفاضل المتكامل وكانت ظروف الزمان والمكان تسمح بذلك من خلال التمدن والتأسيس القانوني والاجتماعي السليم. وهنا تمييز بين الغاية والوسيلة. بينما النفعية اختزلت كل الفكر الكونفوشيوسي فقط في الوسيلة ولم تنطلق نحو الغاية وهذا لاتفاق الوسيلة مع أهدافها وتنافرها التام مع كل ما يؤسس لأى معنى وراء الوجود والنزاع المادي.

وحينما لم تجد النفعية بدا من الاعتراف باحتياج الإنسان للتكامل والتعاطف الروحاني اضطرت صاغرة لتبني بعض المبادئ الروحانية من الهندوسية والبوذية لا على سبيل الإيمان بها لحقيقتها ولكن تطويعا لطبيعة الإنسان وتسييسا لها لتتمكن النفعية من تحقيق أهدافها وغاياتها. فلم تنظر في البوذية والهندوسية بعين الاعتبار للنشأة والبعث ولم تحاول التركيز على تلك المفاهيم، بل صبت جل الاهتمام على الطرق السلوكية التي تضمن ترويض إنسان الغرب المتمدن بما يضمن تسكين آلامه الروحانية بما يكفي ليكتمل عمل الآلة النفعية ولكن ليس بما يكفي لاستيقاظ الإنسان من وهم النفعية المادية. فالطرق السلوكية بالنسبة لهم هي المخدر الذي يضمن لهم بقاء الثور في سرج الساقيى لا أكثر ولا أقل

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد استمر في سرد النماذج الواحد تلو الآخر لأبين وأوضح مواضع الاجتزاء والتشويه التي سببها الفكر النفعي الغربي في جسد الفلسفة. ولكن اكتفي بتوضيح الصورة بمثال الفرانكنشتاين أو الغول الفلسفي المشوه والذي تم تجميع أعضائه من أكثر من موضع باجتزاء مشين وتركيب معيب لتخلق هذا الكابوس الذي يسمى بالفلسفة الحديثة دون أي اعتبار لا لزمان ولا لمكان.

هذا الاجتزاء هو سبب المأساة أما الوجه الآخر فهو قمع الحقيقة ومحو الوجه الآخر للفلسفة. فالحروب المنشوبة على هذه الفئة أو تلك هي حروب لتدمير الإرث الإنساني المتمثل في الجزء الفلسفي الذي لا يتسق مع الغايات النفعية الخبيثة. فالنفعية تأخذ ما ينفعها وتدمر ما دون ذلك. مع العلم أن مع تغير الظروف قد تتبدل الغايات فتحتاج النفعية يوما لما حاربته في السابق ودمرته. وهذا لا مشكلة فيه فهي فقط ستقوم بإعادة تشويه الفلسفة المتبقية من جديد بأن تلحم فيها هذا العضو أو تقطع منه هذا الجزء وفق ما يحلو لها وما تخوله لها غاياتها وأهدافها. هذا هو مسخ الفلسفة الجديد المتغير الزئبقي المبهم الهلامي. لا شكل واضح له ولا قالب فهو يتقولب وفق المنفعة والمصلحة فقط. ففي الوقت الذي كانت فيه الديمقراطية هي سبيل خلاص الإنسانية والكأس الذهبية للسعادة نجد الأنظمة النفعية برآسة رأس الأفعى أمريكا لا تمانع وفي أكثر من موقع وموقف من مساندة الأنظمة السادية والدكتاتورية بل والنازية بغية التشفي والنيل وسحق العدو.

فالجماعات النازية في شرق أوروبا اليوم لم تعد مصدر إزعاج أو امتعاض من القوى الأوروبية حتى بما تحمله النازية من تاريخ أليم طالما أن هذا الرمح المسموم لن يوجه إلا في وجه أعدائي في روسيا مثلا أو في وجه المضطهدين الأفارقة في أمريكا بغية السيطرة عليهم.

النظرة الشاملة والتكاملية

إن الهدف الحقيقي من الفلسفات التكاملية كان ولا زال هو رقي الإنسان وتحضره على الجانبين المادي والروحاني. وإنها كعلم وكوسيلة لكشف الواقع وتأسس الأيديولوجيات لن تحقق الهدف التي تسعى من أجله إلا إذا تم العمل بها بنظرة تكاملية شاملة. هذه النظرة تضع كل المباحث الفلسفية (الوجود، المعرفة والقيم) في لحاظ العقل. فتفند في أبحاث الفلسفة وتكملها وتنسق بينها في صورة شاملة لا تفرق بين المصادر ولا الآفاق الفلسفية (صينية أو هندية أو إغريقية) طالما أنها تتسق مع بعضها البعض ومع المنطلقات العامة والأهداف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن أي محاولة اجتزائية في الفلسفة هي درب من التعاسة والشقاء كمثل المريض الذي قرر بلا دليل أن الدواء تقع فائدته في السكر الذي فيه. فقرر فصل السكر عن باقي مكونات الدواء ثم تناول السكر على أنه الدواء. فلم يُشفَ طبعا بل ازدادت معاناته واشتد مرضه فأراد أن يحاسب الطبيب الذي وصف له الدواء وأن يعاقبه ويمنعه من ممارسة الطب. هذا هو مقدار التسافل الفكري والضحالة العقلية التي وصلنا إليها اليوم في خضم كل هذا الناتج التكنولوجي الضخم. عقول خاوية في قصور مشيدة.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة