مقالات

هذه تضحيات غير حقيقية، فلا توجد فائدة لي منها

في حواري مع أحد الأصدقاء الذي جمعتني به إجازة عيد تحرير سيناء تطرقنا إلى الحديث عن بطولات و تضحيات رجال الجيش المصري، فبرغم التفوق العسكري للعدو إلا أنهم قد حسموا معركة العبور لصالحهم بتضحياتهم، إبراهيم الرفاعي وصائد الدبابات وغيرهم من الأبطال الذين قد سردنا أساطيرهم…

ولكن ما هي التضحية؟

ثم بعد ذلك تطرقنا للحديث عن مفهوم التضحية في ذاته، وسألته ما الذي يجعل الإنسان يضحي بحياته في سبيل المعنى؟ ضحك صديقي بحزن وبُؤس، ضحكة هزلية تُمثل عاداتنا في السخرية من وضعنا المؤلم، ثم قال وبدون مقدمات وعلى عكس سياق الكلام وبأسلوب هزلي “تتفق أمي مع دارسي الاقتصاد على أن مفهوم الإدخار هو التضحية بجزء من الحاضر من أجل مستقبل أفضل، مما يتطلب منِّي توفير جزء من الراتب كل شهر دون صرفه من أجل أن أستقر في المستقبل” وتصور أمي عن الاستقرار هو القيام بتكوين أسرة، إلا أنه لسوء حظي أن علاقة أمي بعلم الاقتصاد لا تتعدى فهم هذا المصطلح وهذا أدى لوضع مزعج يتمثل في نسبة ثابتة المطلوب توفيرها من مجموع المرتب.

فـ “الحاجّة” أطال الله في عمرها تنظر للموضوع كما كانت تنظر لمدى النجاح في الثانوية العامة ولا ترضى بأقل من 90 %، لا تؤمن أمي بالديمقراطية بل تؤمن بنظرية الاستبداد في الحكم وهذا ما يساعدها على أخذ ما تريده من مرتبي لادِّخاره بما تمتلكه من قوة ناعمة وخشنة إذا لزم الأمر، فعملية الاستقرار بمنظور المجتمع تتطلب تسخير كل الإمكانيات والقيام بكل تضحيات ممكنة من أجل أن تتم على أكمل وجه، فالمعظم هنا لا يحلو له الاستقرار بدون تعقيد للأمور!

هي مستعدة لفعل أي شيء في سبيل تحقيق رسالتها في الحياة، هي التي ضحت بعمرها وما تمتلكه في سبيل رسالتها، مستعدة للتضحية بمزاج ابنها أيضا وتعكير صفوه ومهاجمة تطلعاته ونقد أفكاره وجعله يمشي على شفا حفرة من الإفلاس لنصرة قضيتها، أن تُصدّر للمجتمع شخصًا خريج جامعة ومعه شهادته ويعمل بها، شخصًا بالغًا عاقلًا متزوجًا ينجب أطفالًا، شخصًا مستقرًا ماديًا، هذه هي رسالتها وهذا هو أنا الذي  تسعى إليه ومستعدة لتحمل اي تضحيات في سبيل الوصول لذلك الهدف .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم سكت صديقي قليلًا وأكمل: يا رفيقي لا تتهمني بعقوق والدتي لحدتي في الوصف فأنا رغم ذلك مخلص لها وأحرص على عدم إزعاجها؛ فهي مهما حدث ستظل أكثر من يحبني وهذا أمر فطري، إنها فعلت من أجلنا الكثير وفضّلتنا على نفسها طيلة عمرها، ولكن إشكالي معها ومع المجتمع في مفهوم التضحية عندهم والمصاديق والحالات التي يعتبرونها تضحيات ، هم يضحون بالكثير من أجل أن يحيو حياة كريمة ولكن كرم الحياة عندهم لا يتعدى حدود المادة؛ فهي تستثمر مجهودها وتضحياتها في أبنائها لاعتقادها بأنهم مانحي السعادة وعند لحظة معينة ستشعر وكأن شيئًا لم يكن وستبحث عن السعادة الحقيقية ولن تجدها.

نادرًا ما تجد منهم من يبذل تضحيات من أجل المعنى، يضحون بكل شيء من أجل حياتهم بينما هناك من ضحوا ويضحون وسيضحون بحياتهم نفسها من أجل قيمة أسمى ومكسب أعظم. لقد اختار سقراط بكل إرادته أن يتجرع مرارة السم كي لا يتجرع مرارة كتمان الحق وعدم نشر الحكمة في مجتمع أثينا. فبرغم كل المغريات التي عرضها عليه كبار أثينا ورغم كل التهديدات التي تلقاها منهم قرر أن يستكمل السير في طريق رسالته حتى جاءت اللحظة الفارقة حين رأى أنه من الأفضل للقضية أن يموت، فمات جسده وظلت شجاعته وحكمته وأسلوبه على قيد الحياة ترتوي منها الأجيال.

ألم تسمع أيضا عن الحسين بن علي الذي خرج هو وأهله ليسجلوا موقفا تاريخيا في التضحية؟ ألم يكن يعلم بالخطر الكبير الذي سيواجههم في هذا الموقف؟ ولكنه رأى أنه لا مفر من استمرار الثورة والرسالة إلا بموقفه هذا وإن كانت نهايته الموت، فقرر ومن معه أن يموتوا في سبيل ذلك، كيف قام هؤلاء بتشخيص السعادة؟ وبماذا كانوا يشعرون في أصعب لحظات محنتهم؟ وما الذي جعلهم بكامل إرادتهم يفعلون ذلك؟ أيهما أكثر سعادة الأم التي قدمت أبناءها الأربعة في إحدى الحروب دفاعًا عن القيمة والمعنى؟ أم أخرى تزف بنتها على عريسها في أحد الزيجات والأفراح المبهرجة التي نشاهدها اليوم؟.

تضحيات زائفة

ثم سكت صديقي ولم أعقب على كلامه مُفضلاً أن يأخذ أنفاسه ويهدأ بعد حالة الانفعال التي انتابته، ثم أكمل حديثه قائلاً: أنا لا أقلل من أهمية تلبية الاحتياجات المادية ولا من أهمية التضحية من أجل الأبناء باعتبارهم مسؤولين منّا، ولكن يجب أن تكون تلبية هذه الاحتياجات والقيام بهذه التضحية في طول هدف أسمى من مجرد البقاء أو الحفاظ على النوع. كأن أتناول طعامي لكي أكون قادرًا على القيام بمهامي وليس لحبي للطعام في ذاته أو أن أُربي ابني لكي يكون فردا صالحا له دوره في تكامل المجتمع وليس لإشباع فطرة حبي لابني أو لكي يقال عني أني مربٍّ صالح فقط. يجب ألا تتحول الوسيلة إلى غاية، يجب ألا تتعدى حدودها في كونها وسيلة لتحقيق غاية نبيلة مهمة، فالسعادة الحقيقية في الغايات لا في الوسائل.

وافقته على حديثه، ثم صَمتّ طويلاً وصمتّ معه ثم قرر أن يغادر شاكرًا لي على دعوته لتناول الغداء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

مقالات ذات صلة