إصداراتمقالات

ترفيه حيوانيتك

 لربما سمعت عن تجربة ملجرام الشهيرة التي قام فيها بإقناع المشاركين في تجربة علمية بأجر مادي أنها تهدف إلى قياس أثر العقاب في التعلم، وأنهم يستطيعون عقاب طرفٍ آخر بالصعق الكهربائي المتدرج عند سؤاله بعض الأسئلة إذا لم يستطع الإجابة عنها، وبعد أن يصرح الطرف الآخر بأنه يعاني من بعض المشاكل القلبية، ومع وجود مشرفين يحثون المشاركين على الاستمرار وتذكيرهم المستمر بإعفائهم من المسئولية، ومع تزييف إخفاق الطرف الآخر في الإجابة وإسماع المشاركين أصوات التألم –المزيفة- التي تطلب منهم التوقف وعند مستوى معين تشتكي من مشاكلها القلبية، وجد أن أكثر من نصف المشاركين قد تعدى الحد الأقصى للصعق وهو ٤٥٠ فولت.

هدفت هذه التجربة في الأصل لقياس مدى استعداد الإنسان لإلحاق الأذى بإنسان آخر طالما أُعفي من المسؤولية من السلطة المشرفة، بقدر ما تبدو هذه التجربة مزعجة لإنسانيتك إلا أننا بشكل أو بآخر أثبتنا أن ظهور الجانب الحيواني فينا لا يحتاج إلى ملجرام أو إلى حفنة من العلماء، يحتاج فقط إلى بعض البرامج المسماة ترفيهية.. لطالما استخففت ببرامج المقالب التي تزداد توحشًا يومًا بعد يوم وكأنهم في سباق ضاري حول من سيصيب أكثر عدد من الضحايا بالهلع ويا حبذا لو أظهر الضحية المشهورة إعلاميًا جانبه السئ من السب والضرب لمنفذ المقالب أمام الكاميرات لكي تزداد متعة الجمهور وضحكه وحبه لهذا البرنامج ومنفذ المقلب وشجاعته في مواجهة الضحية بعد مقلب كهذا، ولكنني بعد متابعة تعليقات مشاهدي هذه النوعية أو رؤيتهم وهم يقهقهون على منظر الضحية المرعوب استحضرت الصورة المتخيلة لمنفذي تجربة ملجرام، فكلاهما يستمتع برؤية إنسان آخر يتعذب، جسديًا أو نفسيا، فالإنسانية تقتضي رفض الاثنين باطنا وظاهرا، أكان مبررهم حينها بأن هذه قواعد التجربة والضحية مخطئ، أو كان مبررهم الآن بأن الضحية ستتلقى ما يكفي وأكثر من التعويض المادي على التشهير بصورهم وهم في أضعف حالاتهم، وهم خائفون على حيواتهم، أو أن هذه المشاهد بالأصل ملفقة بين الجاني والضحية، لا تعنيني كل هذه المبررات، ما يؤلمني حقًا ليس التبريرات بقدر اللذة التي يشعر بها البعض بالفعل أثناء مشاهدة تلك المشاهد.

لا أنفي أن الجانب الحيواني في الإنسان من قوى شهوية وغضبية لازم لبقائه، ولكن ليبقى إنسانًا عليه أن يُخضع هاتين القوتين لعقله، وهذا هو الفارق بين الإنسان والحيوان، ولذلك فمصطلح حيونة الإنسان الذي استخدمه ممدوح عدوان كعنوان لكتاب له ممكن بإطلاق سراح هاتين القوتين من لجام العقل، بإعدام إنسانيتك، هذا الإعدام الذي لا يحدث دفعة واحدة، وإنما بالتدريج. يحدث هذا التدريج عندما تدرب نفسك على اعتياد مشاهد الإجرام في فلسطين، فتجد نفسك شيئًا فشيئًا لا تحزن حتى لما ترى، يحدث هذا التدريج عندما تجد ذاتك مسوغًا لقتل أبرياء عزل بحجة الجهاد، لمجرد أن هؤلاء الأبرياء ليسوا على دينك أو جنسيتك، يحدث هذا التدريج عندما تسكت عن ظلم تراه حولك لمجرد أن الظالم يتحكم في قوت يومك أو حريتك، يحدث هذا التدريج عندما تسكت على التحرش أمامك بقول أو فعل لمجرد أنك ترى أن الضحية تستحقه، ويحدث هذا التدريج عندما ترحب بعمالة الأطفال وتشدي بقوة احتمالهم بدلاً من التنديد باستغلالهم هكذا، وأخيرًا يحدث هذا التدريج عندما ترى أن إرهاب بعض المشاهير جائز لإمتاعك.

ليس الهدف من هذا الحديث تأنيب البعض أو إفساد متعتهم، الهدف هو فقط لفت الانتباه لما يقوم به البعض من ظلم لأنفسهم، وطعن لأرواحهم حتى وإن أحسست أنك أصبت بمرض اللامبالاة فلم يفت الأوان بعد للترفع إلى إنسانيتك ثانيةً، يمكنك ترويض نفسك على استعادة تعقلها كما روضتها على فقدانه، على العودة لفطرتها من رفض تعرض أي كائن للأذى، سواءً كان الأذى جسديًا أو نفسيًا، سواءً وجدته مبررًا أو غير مبرر،عليك فقط باستنكار كل مشهد مضاد للإنسانية ولو في قلبك. عليك فقط تذكير نفسك بمبدأ الرفق بإنسانيتك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

آية سعيد

طالبة بكلية الطب _ جامعة المنصورة

عضوة ومحاضرة في فريق مشروعنا بالعقل نبدأ المنصورة

مقالات ذات صلة