يظل ما تقوله البيئة المحيطة هو الأهم .. الجزء الثالث
تقول إحدى الأمهات: “عندما كان ابني صغيرًا كان لا يحب الاستيقاظ من النوم مبكرًا، كي يذهب إلى المدرسة، وكنت أكره منه هذا التصرف”.
تقول الأم: “ولأنني كنت أحب أن أرى ابني طبيبًا أو مهندسًا كبيرًا، فقد عزمت على مقابلة معلمته، وبالفعل ذهبت إلى معلمته وأخبرتها أن ابني يكره الاستيقاظ مبكرًا، واتفقت معها أن آتي معه في اليوم التالي إلى المدرسة لتقدم له نصيحة عن فوائد الاستيقاظ مبكرًا، وفي اليوم التالي ذهبت مع ولدي إلى المدرسة، وأنا أؤمل أن توفّق أستاذته إلى إقناعه بالاستيقاظ مبكرًا”.
قالت المعلمة مخاطبةً الطفل: “اسمع يا صغيري، سوف أقص عليك قصةً جميلةً، وبعد أن أنتهي منها ستقول لي ماذا استفدت من هذه القصة”.
الطفل: “حسنًا”.
المعلمة: “كان هناك عصفوران، أحدهما استيقظ مبكرًا، وخرج يبحث عن رزقه، فوجد كثيرًا من الحشرات فأكل منها حتى شبع، وادّخر بعضًا منها لصغاره، أما الآخر فقد استيقظ متأخرًا، وعندما خرج يبحث عن طعام لم يجد شيئًا، وبقي جائعًا طوال اليوم. ماذا استفدت من هذه القصة يا صغيري؟”.
التفت الصغير إلى أمه، ثم وجه كلامه للمعلمة قائلًا: “لقد استفدت من هذه القصة فائدةً كبيرةً، وهي أن الحشرات التي تستيقظ مبكرًا تأكلها العصافير!”.
صراحة الأطفال وعفويتهم تسبب الحرج للأبوين
يظن بعض المربين أنهم يتعاملون مع أطفال أو مراهقين ينقصهم الذكاء والفِطنة، وهم في هذه الحالة مخطئون، فالأطفال لمّاحون وفطناء، ويستطيعون تقييم بعض المواقف والإجابة على بعض الأسئلة بطريقة لم نكن نتوقعها ولم تخطر لنا على بال، وكم وقع بعض الآباء والأمهات والمعلمين في إحراج شديد عندما فاجأهم الصغار بإجابات أو بتصرفات هم في غفلة عنها.
إن لدى الأطفال في بداية حياتهم محاكمات عقلية لا زالت على الفطرة –غالبًا– ولم يتأثروا كثيرًا بالمحاكمات العقلية للكبار التي تميل إلى المجاملة، وقول نصف الحقيقة، وتغليف الإجابة ببعض الكذب، وأحيانًا اللجوء إلى اللف والدوران وعدم إعطاء إجابة واضحة.
أقول: إن إجابات الأطفال تلقائية صريحة واضحة لا تتخفى وراء المجاملات، ورغم وقوعنا في الإحراج من بعض مواقف أطفالنا وإجاباتهم، إلا إننا نعترف في قرارة أنفسنا أن هذه المواقف والإجابات صحيحة.
من أسباب انحراف الفطرة
يحدث هذا من الأطفال في البداية، لكن الخطير في الأمر هو ما يحدث بعد ذلك، فالأطفال مع تكرار المواقف وملاحظة ما يدور حولهم في عالم الكبار، يبدأون في الميل إلى المحاكمات العقلية للكبار، ويقلدونهم ويتأثرون بهم، فتبدأ لديهم المجاملة واللف والدوران، وكم رأينا وسمعنا ابنًا يمدح أباه أو أمه مدحًا محترِفًا، أو يجيبهما إجابة ترضيهما أو يقوم بموقف يفرحان به، وهدف الصغير ليس الحصول على رضاهما فقط، بل والحصول على بعض ما في جيوبهما من أموال.
عليَّ أن أقول ابتداء، والكلام للدكتور عبد الكريم بكار: “إن الطفل حين يولد يكون مجردًا من المشاعر والعواطف، ومن خلال المعايشة والتربية يمتص من بيئته ومن محيطه ما هو سائد من المشاعر والميول”.
الأبناء والقدوة الصالحة
لعلي أقول أيضًا: إن الوعي الأخلاقي، أو المعرفة العميقة بالقيم الخلقية هي الطريق الأساسي لتكوين المشاعر الشخصية لدى الأبناء، وحين تتحول الفكرة إلى شعور، فإن هذا يعني أنها تجاوزت الممانعة الذاتية، وصارت جزءًا من البنية النفسية العميقة.
نقصد بالعواطف والميول أمورًا من نحو: حب الفضيلة وحب الخير للناس، واليقظة الشعورية تجاه المنكرات والأخطاء، وتقدير الذات والثقة بالنفس، واتخاذ نموذج أعلى للاقتداء، والدخول إلى عالم الناجحين ومحاولة القيام بأعمالهم، بالإضافة إلى تقدير الاستقامة بالمفهوم الشرعي… هذه المشاعر تشكل البنية التحتية للسلوك القويم، ووجودها لدى الإنسان دليل على نجاح مربيه في تربيته، ودليل على التمتع بقدر جيد من الفكر الناضج.
تقليد الوالدين سلاح ذو حدين
الأطفال –في الغالب– يقلدون ويتأثرون بسلوك الكبار الذين يحترمونهم، ويهتمون بهم، كما يقلدون ويتأثرون بسلوك الذين يعاملونهم بعطف ودفء وحنان، والواقع يشهد بهذا، فإذا أردنا للصغار أن يتشربوا المبادئ والقيم والاتجاهات التي نحملها، فينبغي أن نعاملهم بحب غير مشروط، كما ينبغي أن نكون في نظرهم أشخاصًا محترمين من خلال تطابق أفعالنا مع أقوالنا.
إن تربيتنا ستكون جيدة حين نكون نحن أشخاصًا جيدين، ولهذا كان للأسوة الحسنة والقدوة الصالحة تأثير كبير في صلاح الأبناء ونجاحهم. وكثير من الصفات الرديئة لدينا ليست جزءًا من طبيعتنا، وإنما اكتسبناها بسبب العيش في بيئة معينة.
أسرار التربية الناجحة
من أكثر ما يؤثر في حياتنا شيئان: مكان السكن، وهنا تحضر الأسرة بمركزيتها وتأثيرها الكبير، ومكان العمل، وهنا يحضر الأصدقاء والزملاء، وهؤلاء تأثيرهم لا يخفى على أحد.
من هنا فإن التربية الناجحة هي في جوهرها ارتقاء بالبيئة وشروط العيش والعمل والتواصل، كما إن الحصيلة المعرفية الممتازة تُدخِل تغييرات كبيرة على شخصية صاحبها، بل وتؤثر في شخصية الإنسان تأثيرًا بليغًا، وتجعل رؤيته لنفسه وللعالم من حوله أكثر رشدًا، حتى إن دماغ الطفل ينمو حجمًا ووزنًا على نحو مواكب للتحديات والمواقف الجديدة، وكلما كانت البيئة أعظم ثراءً، كانت الفرصة لنمو ملكاته العقلية أكبر.
إن الكبار حين يعملون بصمت يتأثر بهم الصغار، ويتعلمون منهم أخلاقيات العمل، وحينئذ يكون كلامهم قليلًا وعملهم كثيرًا، أما حين يعمل الكبار قليلًا ويتكلمون كثيرًا من أجل توفير مادة للدعاية فإن الصغار سيكونون كذلك. وحين يرى الطفل كل ما حوله كاملًا فكيف يكون هو ناقصًا. يجب أن نعرف متى يكون الصمت هو أفضل شيء نفعله.
وللحديث بقية.
مقالات ذات صلة:
ما هي الفطرة؟ وهل تختلف من شخص لآخر؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا