الذكاء الاصطناعي (حصاد 2023 وتحديات المستقبل) .. الجزء الثاني
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي (نمط جديد للحياة)
أحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI Models) ضجة في وقت مبكر من سنة 2023، عندما استُخدِم للمنافسة في مسابقات التصوير الفوتوغرافي والفوز بها، واختبار قدرته على اجتياز الاختبارات المدرسية والمهنية. كما تمكن مُصنعو «تشات جي بي تي» (برنامج الدردشة الآلي الذي أصبح اسمًا مألوفًا) من الوصول به إلى قاعدة مستخدمين بلغت مائة مليون مُستخدم بحلول فبراير 2023، أي نحو أربعة أضعاف حجم سكان أستراليا.
كذلك استخدم بعض الموسيقيين تقنية استنساخ الصوت بالذكاء الاصطناعي لإنشاء موسيقى اصطناعية تشبه أصوات الفنانين المشهورين، مثل مُغني الراب الأمريكي «إيمينيم» (مارشال بروس ماذرز الثالث Marshall Bruce Mathers III من مواليد 1972). وفي مارس 2023، دشنت جوجل برنامج الدردشة الآلي «بارد» (Bard) الذي طُوِّر استجابة مباشرة لظهور «تشات جي بي تي» الخاص بشركة «أوبن إيه آي»، إذ يستند «بارد» في تصميمه إلى نموذج اللغة التحاوري «لامدا» (LaMDA) الذي طورته شركة جوجل وكشفت عنه قبل عامين، ويُشبه نموذج اللغة «جي بي تي 3»، وإن كان بخلاف هذا الأخير يُركز على الحوار وليس النص. وبعد يوم واحد من إطلاق «بارد» من جوجل، قامت شركة ميكروسوفت بترقية محرك البحث «بينج» Bing (المعروف مسبقًا باسم «إم إس إن سيرش» MSN Search، ثم «ويندوز لايف سيرش» ثم «لايف سيرش» Live Search)، إلى إصدار مُحدث بتقنيات الذكاء الاصطناعي التي يقوم عليها تطبيق الدردشة «تشات جي بي تي»، وهي خطوة تهدف أساسًا إلى منافسة جوجل، بالإضافة إلى حصد أرباح هائلة بفضل الأدوات التي تعمل على تسريع أنواع إنشاء المحتوى جميعها وأتمتة المهام، إن لم تكن الوظائف ذاتها.
في الوقت ذاته، أضاف تطبيق التواصل الاجتماعي «سناب شات» (Snapchat) للمشتركين به أداة الدردشة «ماي إيه آي» (MyAI)، وهي روبوت للدردشة الفورية يقوم على نموذج اللغة الكبير «جي بي تي»، وبإمكانه الإجابة عن الأسئلة البسيطة، وتقديم المشورة فيما يتعلق بالهدايا والعطلات وقوائم الطعام وغيرها، ويمكنه أيضًا تلقي الاقتراحات عن ما يرغب المشتركون في رؤيته. كذلك قامت «أوبن إيه آي» في مارس 2023 بإطلاق «تشات جي بي تي 4» (GPT-4)، النسخة الأحدث والأخطر من «تشات جي بي تي»، الذي يحمل إمكانات واعدة في مجالات متعددة، مثل التفاعل الإنساني – الآلي والتعلم الآلي وتوليد النصوص الإبداعية والتعلم الذاتي، بالإضافة إلى استخدامه في تطبيقات مثل الدعم اللغوي والترجمة الآلية وإنشاء المحتوى والتسويق الرقمي والرد على الأسئلة الشائعة وغيرها.
في مارس 2023 أيضًا، أصبحت شركة كوكا كولا (Coca-Cola) واحدة من أوائل العلامات التجارية الكبرى التي أصدرت فيلمًا دعائيًا مدعومًا بمزيج من الرسوم المتحركة والذكاء الاصطناعي، ما يدفع إلى التوقع برؤية موجة من الإعلانات بهذا النمط الإبداعي من الشركات الكُبرى. كما أعلنت شركة «ليفي شتراوس وشركائه» الأمريكية للملابس (صاحبة العلامة التجارية للجينز، المعروفة اختصارًا باسم «ليفيز» Levi’s) عن اختبار نماذج ملابس مُولدة بالذكاء الاصطناعي، في محاولة لتنويع تجربة التسوق عبر الإنترنت، إذ يُسمح للعملاء بمشاهدة الشكل الذي ستبدو عليه قطعة الملابس على عددٍ من النماذج التي تغطي مجموعة واسعة من أنواع الجسم والأعمار والأحجام وألوان البشرة، وذلك في معية انتشار صورة لبابا الفاتيكان (البالغ من العمر 86 عامًا) وهو يرتدي على غير العادة سترة بيضاء منتفخة أنيقة من ماركة «بالنسياغا» الفرنسية (Balenciaga) وصليب فضي مرصع بالجواهر، إذ اتضح أن الصورة مُصممة بالذكاء الاصطناعي باستخدام برنامج «ميدجورني» (Midjourney)، وهو برنامج ذكاء اصطناعي خاص مفتوح المصدر ينشئ صورًا من الأوصاف النصية، على غرار «أوبن إيه آي».
من جهة أخرى، بدأت شركة «أمازون» (Amazon) للتجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية في أبريل 2023 باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في منتجاتها وخدماتها كافة، إذ أتاحت لأكثر من مائة ألف عميل من مختلف الأحجام والصناعات إمكانات مثل التعرف على الصور والتنبؤ والبحث الذكي بواسطة استدعاء بسيط لواجهة برمجة التطبيقات. كما أعلنت اليابان –في خطوة يمكن أن تؤثر على مجتمعات الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم– أن استخدام مجموعات البيانات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي لا ينتهك قانون حقوق الطبع والنشر، ما يعني أن المدربين النموذجيين يمكنهم جمع البيانات المتاحة للجمهور دون الحاجة إلى ترخيص أو الحصول على إذن من مالكي البيانات. وصرَّح «تاكاشي كي» (Takashi Kii)، عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي الدستوري الياباني، في اجتماع لجنة الرقابة المالية اليابانية، قائلًا: «لقد ناقشنا تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي من منظورين: حماية حقوق النشر والاستخدام في البيئات التعليمية. في اليابان، يمكن استخدام أعمال تحليل المعلومات بغض النظر عن الطريقة، سواء لأغراض غير ربحية أو من أجل الربح، أو لأعمال أخرى غير الاستنساخ، أو للمحتوى الذي حصلوا عليه من مواقع غير قانونية»!
في هوليود بالولايات المتحدة، أضرب كُتَّاب السيناريو في مايو 2023 مطالبين بحظر النصوص التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يُوضح محنة الكُتَّاب في خضم الصراع بين الإنسان والآلة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب واسعة النطاق بالنسبة إلى الصناعات الأخرى التي تواجه نوعًا جديدًا جذريًا من الأتمتة. كذلك انتشرت على نطاق واسع في الشهر ذاته صورة أنشِئت بالذكاء الاصطناعي، تُصور البنتاجون يحترق نتيجة انفجار، وهو ما أدى إلى انخفاض مؤقت في سوق الأسهم. وقالت وكالة حماية قوات البنتاجون التابعة لوزارة الدفاع وإدارة الإطفاء في مقاطعة أرلينجتون في بيان مشترك على تويتر: «لم يحدث أي انفجار أو حادث في محمية البنتاجون أو بالقرب منها، ولا يوجد خطر مباشر أو مخاطر على الجمهور». وسرعان ما ظهرت صور أخرى مزيفة للذكاء الاصطناعي يُزعم أنها تظهر انفجارًا في البيت الأبيض، لتنخفض مرة أخرى مؤشرات أسواق الأسهم الرئيسة لفترة وجيزة بسبب التقارير الكاذبة قبل أن تتعافى!
في يوليو 2023، حضر مئات من البروتستانت الألمان قداسًا في الكنيسة في بافاريا، أٌنشِئ بالكامل تقريبًا بالذكاء الاصطناعي، إذ قاد روبوت الدردشة « تشات جي بي تي» أكثر من ثلاثمائة شخص في أربعين دقيقة من الصلاة والموسيقى والمواعظ والبركات، بدعم من عالم اللاهوت والفيلسوف بجامعة فيينا «جوناس سيمرلين» (Jonas Simmerlein). وكان الحدث الذي نظمته الكنيسة التي تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي واحدًا من مئات الأحداث التي أقيمت في مؤتمر البروتستانت في مدينتي نورمبرج وفويرث المجاورة في ولاية بافاريا، وقد جذب اهتمامًا كبيرًا لدرجة أن الناس اصطفوا في طابور طويل خارج المبنى القوطي الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر لمدة ساعة قبل أن يبدأ! وبالفعل، استمع المصلون في الكنيسة باهتمام، بينما كان الذكاء الاصطناعي يعظ عن ترك الماضي وراءنا، والتركيز على تحديات الحاضر، والتغلب على الخوف من الموت، وعدم فقدان الثقة بيسوع المسيح!
في أغسطس 2023، وبعد شهرين فقط من من إتاحة الملخصات البحثية التي أنشئت بالذكاء الاصطناعي في منصة «زووم» Zoom، أعلنت الشركة المالكة للمنصة أنها قامت بتحديث شروط الخدمة الخاصة بها، لتأكيد أكبر أنها لن تستخدم محتوى الصوت أو الفيديو أو الدردشة للعملاء لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي لديها دون موافقة العملاء، وقد أثار هذا الموقف السؤال عن كيفية استخدام المواقع والمنصات كافة وشرعيتها (وليس زووم فقط) لبيانات العملاء في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي. وفي سبتمبر 2023، أُضيفت إمكانات الصوت والصورة إلى «تشات جي بي تي»، بحيث يُمكن لمستخدمي النسخة المدفوعة من البرنامج إجراء محادثة صوتية أو إظهار ما يتحدثون عنه للروبوت. كذلك بدأت شركة أدوبي Adobe لإنتاج برامج الجرافيكس والأنيميشن المتطورة في دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في تطبيقاتها مثل «إليستريتور» (Illustrator)؛ برنامج لإعداد التصميمات من نوع الرسوميات الموجهة، و«فوتوشوب» (Photoshop)؛ مُحرر الرسوميات النقطية. وبحلول ديسمبر 2023، شهد العالم تحولًا متزايدًا نحو استخدام «إيدج إيه آي» Edge AI (أو حوسبة الحافة Edge Computing)، إذ يُطبَّق الذكاء الاصطناعي وتُجرى العمليات الحسابية بالقرب من المكان الذي تُجمَع فيه البيانات فعليًا، وليس في منشأة حوسبة سحابية (Cloud Computing) مركزية أو خارج الموقع، مما يُتيح للأجهزة اتخاذ قرارات أكثر ذكاءً أسرع، دون الاتصال بالسحابة أو مراكز البيانات خارج الموقع. وبعبارة أخرى، تشير حوسبة الحافة إلى الخوادم الموجودة في المنطقة، وهي أقرب إلى نقاط النهاية (مثل كاميرات المراقبة وأجهزة الاستشعار)، إذ تُلتَقط البيانات لأول مرة، مما يُقلل من كمية البيانات التي يجب أن تنتقل عبر الشبكة، ومن ثم تحقيق الحد الأدنى من التأخير، والحفاظ على متطلبات الخصوصية والأمان بقوة أكبر.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
تقنية الميتافيرس وأبعادها الاجتماعية
الاقتصاد الجديد .. اقتصاد المستقبل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا