تجديد الخطاب الفكري – الجزء الرابع
نستكمل في هذا المقال نموذجًا آخر من المناهج المعرفية، نستعرضه ونحلله موضحين حدوده ودوره في عملية المعرفية السليمة.
المنهج النصي الإخباري المادي
عند الحديث عن هذا المنهج المعرفي نجد من المفيد التوضيح أن لهذا المنهج فريقين مختلفين في المضمون لكنهم متفقان في الأسلوب!
أحدهما يستمد رؤيته من النص الديني، والآخر يستمد رؤيته من نص فلاسفة المادية الذين رفضوا الدين، أو اعتبروا دوره دورًا هامشيًا ليس له تدخل في الحياة العملية للناس.
نتناول في البداية المنهج النصي الإخباري المادي
وهو المنهج الذي يستمد رؤيته من تفسيرات وكتابات علماء المنهج المادي، لذلك استخدم مجازا وصفهم ب “النصيين الماديين”
ذلك المنهج الذي اعتمد الفهم الشخصي والتأويل الظني من خلال تفسيرات شخصية لمفكري المادية الغربية بأسلوب الاستقراء، الذي ينطلق من نموذج أو نموذجين ويعتبرهم قاعدة تنطبق على الكل، ومن خلال الملاحظة والمشاهدة المستخدمة في المنهج المادي.
لكن الدراسة هنا لم تكن للظواهر المادية من قوانين الطبيعة وتفاعل العناصر ومكونات البيئة المحيطة ومركبات العناصر الكيميائية، بل استخدموا تلك المنهجية “الملاحظة والمشاهدة” في دراسة الإنسان والمجتمعات وتحديد أفضل النظم الاجتماعية والسياسية والحقوقية والقانونية لحياة أفضل؛
رافضين كل ما هو غيبي ديني، وكل ما يشكل سابقا النسق المحدد لطبيعة النظم المنظمة لحياة البشر، وأنتجوا نسقًا مختلفة بل ومتناقضة في بعض الأحيان، تحدد ما يجب أن تكون عليه المجتمعات والأفراد والعلاقات القائمة بينهما، وأسباب ذلك كثيرة لسنا بصدد الحديث عن الدوافع التي أدت لظهورها وانتشارها في أغلب بلدان العالم شرقا وغربا.
فقد اتخذ أنصار هذا المنهج تلك التفسيرات والمقولات واعتبروها الخارطة الذهنية لفهم وتفسير الإنسان والوجود، ومصدر المعرفة لديهم ترتقي لدرجة المقدس بحيث يجب إرجاع كل الأفكار لتلك التفسيرات التي تبنوها وما دونها ضرب من ضروب التخلف والرجعية!
الاشتراكية
فنجد على سبيل المثال: الاشتراكية التي سيطرت فكريا على نصف العالم تقريبا، قد اعتمدت على سلامة رؤيتها وواقعية طرحها من خلال تفسير علماء الاشتراكية وعلى رأس تلك القائمة كارل ماركس على سبيل المثال لا الحصر، كذلك فعل أنصار الليبرالية فقد استدلوا على سلامة طرحهم من خلال أفكار جون لوك على سبيل المثال وليس الحصر أيضا، وبالرغم من ظهور أفكار أخرى تعد أكثر تطورا داخل ذلك المنهج الفكري، إلا أننا نجد أن نفس مصدر المعرفة عندهم واحد.
وهنا يظهر لنا اشتراك هذا المنهج مع المنهج التجريبي والذي يعتبر الحس أداته المعرفية والواحدة، وبين المنهج النصي الذي يعتمد على النص في تكوين رؤيته وإن كان النص هنا نصًّا تأويليًّا بشريًّا من خلال نظرية تفسر وتشرح لنا الحقائق من وجهة نظر صاحبها قائمة على ما ذكرنا سلفا.
ويُوجه لهذا المنهج نفس النقد للمنهج المادي، وأضف لذلك عدم الحاجة إليه في الطرح التجديدي للفكر.
ويرجع سبب ذلك لبطلان تلك النظريات التي نادى بها هؤلاء المفكرين الغربيين؛ فقد شهد العالم بأسره انهزام الاشتراكية فكريا على مستوى ضعف الاستدلال والبرهنة المنطقية، وتطبيقيا على مستوى التنفيذ على الأرض بانهزام المعسكر الاشتراكي وزيف ما ادعى من تطبيق جنته إن جاز التعبير على أرض الواقع، ومن نشهده من بواقي لهذا الفكر قد تداخل بشكل ملحوظ مع الفكر الذي كان ينقده ويقدم رؤية مخالفة له؛ فالنماذج الاشتراكية اليوم أساسها رأسمالي بغلاف اشتراكي.
الليبرالية
كذلك نجد اليوم الليبرالية ومخرجها العملي الرأسمالية وما سببته للعلم من حروب وفقر واستغلال، حتى تطبيق أبسط حقوق الإنسان في عدم التفرقة العنصرية على أساس اللون أو الجنس أو الدين، لم تستطع تحقيقها على المستوى التطبيقي؛ فقد ظهر للعالم كله زيف تلك الادعاءات في الأحداث الأخيرة في البلد الذي يدعي كذبا بأنه “الراعي الحصري لحقوق الإنسان” الولايات المتحدة الأمريكية.
وكيف يتم استخدامها كشعارات تمرر من خلالها مخططات استعمارية على أغلب دول العالم.
وليس ببعيد علينا الحروب الحالية في الكثير من دول العالم، بل المخطط الجديد لهذا الفكر المتوحش بالفوضى الخلاقة التي تعاني منها الكثير من بلدان العالم، كذلك الحرب العالمية الأولى والثانية ونتائجها الكارثية تظل شاهدة على ما قدمه هذا الفكر على المستوى التطبيقي.
ولم يعف الليبرالية سيطرتها على أغلب بلدان العالم، عن ضعف مبانيها الفكرية القائمة على الاستدلال الاستقرائي ظني النتائج؛ حيث يقوم برصد نموذج أو أكثر في مجتمعا بعينه، وينطلق منه للتعميم على باقي المجتمعات دون أي سند منطقي بأن ما يصلح للغرب يصلح للشرق على سبيل المثال.
فقد ثبت عدم قدرة هذا الفكر على تحقيق السعادة التي وعد بها شعوب العالم، فقد نظر أنصار هذا المنهج للجانب المادي فقط للإنسان والوجود وبالرغم من ذلك لم يقدموا الحلول بل استخدموا كل وسائل الخداع والمكر والقوة المفرطة في إفقار الشعوب، وزيادة معدلات المرض وزيادة الصراعات وإفساد الطبيعة.
والواقع المعاش في عصرنا الحالي لهو دليل واقعي على بطلان وزيف هذا النمط الفكري.
ختاما
وختاما نوجه سؤالًا للذين لا يزالون يعتقدون بسلامة هذا الفكر الذي يعتمد على التجربة!
كم من أعوامٍ أخرى ترغبون أن يجرب العالم نظريات ويدفع ثمن نتائج قائمة على فهم ناقص دون دليل أو برهان لحقيقة الإنسان والوجود؟!
اقرأ أيضاً:
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا