تجارب الجهل
يقولون إن من أعظم ميزات الإنسان تراكم المعرفة والاستفادة من التجارب. بل إن تلك الميزة قد نجدها بدرجة ما في بعض الحيوانات التي تتجنب النار مثلا بسبب تجربة حسية مؤلمة، لكن يبدو أننا بصدد تغيير الكثير من القواعد المتسالم عليها. فها نحن مجددا نرى أمام أعيننا حالة فريدة تستحق الدراسة من الفشل في مجرد استقراء بعض آثار التفرق والتشتت في كل ما مررنا به من خيارات متاحة منذ قيام ثورة يناير وحتى الآن، حتى إن الناظر من خارج المشهد قد تنتابه حالة دهشة وتعجب يتبعها الكثير من التساؤل وربما تغيير بعض من المسلمات من كثرة تكرار المواقف وعدم تعلم الدروس، أولا يكفينا لنكشف جهلنا:
– غياب العلم بطبيعة النظام الذي ثرنا عليه، حتى إذا سقطت رأس واحدة برزت لنا عشرات الرؤوس الجاهزة للإنبات.
– الفرقة والتقسيم بناء على محددات لا صلة لها بأهداف الثورة لا يستفيد منها إلا من أراد للثورة الاحتواء والعودة لسابق عهود الظلم والفساد.
– تفجير منابع الخلاف بين كل شركاء الثورة دوما وبشكل منتظم وصولاً لطريق لا عودة عنه مما أثمر موت الثورة تحت أقدام الخلافات الأيدلوجية والسياسية الوهمية و الأطماع الشخصية ونتج عنه الفشل في تحديد من يحكم المرحلة التي تلت عزل مبارك والفشل في الاتفاق على مرشح واحد تصطف خلفه الثورة التي كانت لاتزال وليدة ينتظرها الكثير من العمل لاجتثاث منابع الفساد والظلم، ثم الفشل مجددا في تشخيص الموقف بعد انتخابات 2012 وصولا بالفشل في منع النظام السابق من عودة مؤكدة على ظهر من ثاروا عليه وبأخطاء من حكمونا ولم يكونوا يملكون من الحكم شيئا انتهاء بمشهد سيريالي أعلن فيه قائد الانقلاب ومدير مخابرات النظام السابق قرب وصوله لحكم البلاد في انتخابات يعلم الجميع نتيجتها ثم يفشل الرافضون لعودة النظام في التوحد حول الموقف منها !!
– امتلاك درجة مخيفة من الثنائيات الضيقة والتعصب المخيف.
– وجود آلاف المعتقلين من مختلف الانتماءات ممن كان يجمعهم يوما ما الاصطفاف في مشهد الثورة في ميدان واحد واستمرار خلافاتهم رغم وضوح أن القادم هو الأسوأ وأنه يزداد قربا كل يوم بزيادة فرقتنا كل يوم.
– وجود قادة من كافة الاتجاهات ثبت جهلهم وضيق أفقهم وسوء خياراتهم و عمل كثير منهم لمصالحه الشخصية.
هناك الكثير والكثير مما يمكن رصده ويدور كله حول عنوان (الجهل) بكل درجاته ومراتبه بدءا من الجهل بالنظام ومكوناته والجهل بما تقتضيه طبيعة التحرك الثوري ليحقق أهدافه والجهل بطريقة ترجيح الفعل المناسب، والجهل بقواعد وقوانين العمل الاجتماعي وسيكولوجية الجماهير وكيفية التعامل معها، والجهل بالتخطيط الاستراتيجي والعمل المنظم، والجهل باقتضاء العمل الجماعي وجود قيادة تنظم الجهود وتوحد الطاقات وتجمع الشتات وببديهية أن التوحد شرط أساسي لأي تغيير.
وفي النهاية تصوروا أن يجمع كل هذا التراكم البائس من الجهل جهل بوجود الجهل من الأساس مما جعله مركبًا مستحكمًا يزيد الأمور صعوبة وتعقيدا، فلو كان الجاهل يدرك جهله ويسعى حقًا لخلاص وطنه لسعى لرفعه ولصرف جهده ووقته في محاولة التعلم، لكننّا مبتلون بجهل فوقه جهل تحته جهل (ظلمات بعضها فوق بعض) لا نكاد نمر بموقف يقتضي استخلاص الدروس والعبر حتى نفاجيء بعقول مسطحة لا يزيدها كثرة التجارب إلا تسطيحًا وإمعانًا في الجهل.
ألم تحن بعد لحظة اكتشاف الجهل ووضع الحد لهذه المتاهة المركبة التي آل إليها حالنا البائس، إن لحظة إدراك عمق الجهل هي في ذاتها لحظة نور وعلم تدفع من عرف جهله إلى تلمس باب الخروج والبحث عن الأسباب والسعي لإيجاد الحلول، فهل حان وقت اكتشاف جهلنا المركّب أم أن العلاقة بين زيادة الجهل وكثرة التجارب صارت طردية محكمة يزيد فيها جهلنا بمقدار ما تزيد التجارب التي نمر بها ؟!
تجارب الجهل.