تتمة (الجزء الثاني) نقد النظرية الوضعية – تفسير الظواهر
الظواهر وأوغست كونت
لنبدأ مباشراً بالأفكار و الظواهر التي صاغتها النظرية، ثم نبدأ في عرضها بالنقد والتحليل.
أ. الدور اللاهوتي:
يقصد فيه كونت أن العقل سار على أساس التفسير الديني، فقد كانت الظواهر تفسر
بنسبتها إلى قوى مشخصة أبعد ما تكون عن الظاهرة نفسها كالآلهة والأرواح والشياطين.
ب. الدور الميتافيزيقي:
في هذا الدور نسب تفسير الظواهر إلى: معاني مجردة أو قوى خيالية أو علل أولى لا يمكن
إثباتها، كتفسير نمو النبات بقوة أرواح النبات.
ج. الدور الوضعي ـ العلمي:
الدور العلمي هو أن يذهب العقل في تفسير الظاهرة بنسبتها إلى قوانين تحكمها، وأسباب
مباشرة تؤثر فيها كتفسير ظاهرة النمو النباتي بالعوامل الطبيعية والكيميائية، والقوانين المؤلفة
لهذه الظاهرة.
وتبين وفق تفسير – أوجست كونت -أن الحال الأول والثاني غير صالحين فقد قرر أنه لم يبق إلا الحل، وهو أن نجعل التفكير الوضعي منهجاً كلياً عاماً، ونقضي على ما بقي من مظاهر التفكير الميتافيزيقي.
المقصود بمفهوم الوضعية
في البداية يجب أن نعرف أن المقصود بالوضعية هي إحدى فلسفات العلوم التي تستند إلى رأي يقول: إنه في مجال العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات، والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية، وخصائصها، والعلاقات بينهم والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية.
الفرق بين القضية الاجتماعية والقضية العلمية
وهنا يجب أن نوضح الفرق بين القضية الاجتماعية، والقضية العلمية، حيث تخضع القضايا الاجتماعية بظروف، وحراك مجتمعي خاص به فالتحول الذي مرت به المجتمعات الغربية من رفضها للدين بسبب الممارسات التي كان يمارسها رجال الدين في ذلك الوقت، والتي أدت بدورها لرفض الدين والتوجه نحو العلوم التجريبية.
هي تجربة خاصة بالمجتمع الغربي، والتفاعل الخاص فيه، ولا يمكن تعميم تلك التجربة على باقي المجتمعات التي لم تمر بتلك الظروف المماثلة، فكثير من المجتمعات في الشرق مثلا لم يرفض أفرادها الدين ولم يعادوا العلم،
بل علموا أهمية كلٍ من الدين والعلم ومعا كذلك لم يمارس رجال الدين في المجتمعات الأخرى ما ممارسة رجال الدين في المجتمعات الغربية، لذلك تختلف لقضية الاجتماعية عن القضايا العلمية المبرهن على سلامتها فمثلا قانون الجاذبية هو قانون علمي ينطبق على كل ما على الأرض، وليس له علاقة بمجتمع شرقي أو غربي.
ثانيا:
أقر كونت التجربة كأداة وحيدة لكشف الواقع، وهو بذلك يناقد نفسه لأنه لم يقِم تجربة علمية تثبت صحة التقسيم الذي قسمه للمجتمعات من بدء الخليقة وصولا للمرحلة التي عاش فيها.
ثالثا:
لم يقدم دليلا على سلامة ادعائه بأن كل المجتمعات تتسم بنفس السمات، وتمر بنفس المرحل، فالواقع يثبت لنا أن الكثير من المجتمعات تأخذ بالدين كما تأخذ بالعلم.
رابعا:
أراد أن يستخدم الحواس فيما لا يمكن استخدامه فيه، فوقع في تناقص كبير جدا، لقد أقر كونت بالنظرية الوضعية كحل أمثل لفهم الظواهر الاجتماعية، واعتبرها من الظواهر الخاضعة للتجربة العلمية الملاحظة، فما هو السند التجريبي الذي يؤيد سلامة وجهة نظره باعتبار أن التجربة هي الأداة الوحيد لكشف الواقع؟
هل أقام التجربة على كل المجتمعات؟ هل اطلع على كل العلاقات الاجتماعية وأخضعها للتجربة؟ كيف تكون التجربة ناجحة وهي تدرس رغبات وأمنيات الشعوب في العدل والحق وحفظ الحقوق؟ كيف للتجربة أن تحدد معيار الخير والعدل والجمال؟.
خامسا:
كيف تستمد التجربة سلامتها وتبرهن على يقينية نتائجها دون أن تعتمد على منطلقات عقلية غير مادية كمبدأ أصل العلية، وعدم اجتماع النقيضين ، ومبدأ الكل أكبر من الجزء؟ لذلك فإنكار التجربة لدور العقل في إدراك الماورائيات لا يقع، فلا يحيط الجزء بالكل،
فالأولى أن يحدث العكس فيضع العقل حدودا للتجربة وينكر تعديها، فالعقل لا يسمح بأي وجه للتجربة الحسية التي اكتسبت مشروعيتها وحجيتها العلمية منه، أن تتعدى حدودها إلى عالم ما وراء الطبيعة أو تستنتج أحكامًا حسية وهمية مخالفة لأحكامه العقلية القطعية، كما يفعل ذلك بعض التجريبيين الغربيين المصابين بالغرور العلمي عندما يبحثون عن بداية نشأة الكون ونهايته بالتجربة الحسية.
الخطأ الذي وقع به التجريبيين
لا يمكن للقياس التجريبي أن يتخطى حدود المحسوسات، وإنّما يجري في المحسوسات فقط، ولا يصح إعمالها في كشف ما وراء الطبيعة، أو القيم الإنسانية كالعدل الخير والجمال ونمط التربية الأمثل وغيرها من الأمور غير الحسية بل إنّ التجريبيين لا يمكنهم الوصول بواسطة التجربة إلى كشف حقيقة الطبيعة نفسها، وإنّما يعرفون بها ظواهر الطبيعة فقط، المعبر عنها بـ (الكيفيات المحسوسة) المنعكسة على الحواس الخمس.
لذلك انطلق التجريبيون من استنباط حدود الحس والتجربة الخاصة بإدراك العالم المادي فقط، إلى تعميمها على حدود المعرفة ذاتها، فأنكروا وجود عالم ما وراء المادة أو الطبيعة من مبتدأ حكرهم مراتب الإدراك على الإدراك الحسي دون العقلي، والمعرفة على التجربة دون العقل أو باقي الأدوات المعرفية.
وللأسف الشديد لم يتم الاعتماد على تلك الرؤى الحسية في تفسير الكثير من الظواهر الخارجة عن إطار الحس أصلا، مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الخلل المعرفي، وتبنى مواقف غير صحيحة وتتطور الأمور في كثير من الأحيان إلي رفض أي فكر يناقض هذا الفكر المادي القاصر عن إدارك المعارف غير المادية، مما تسبب في الكثير من الآفات والمشاكل التي تواجهها المجتمعات والأفراد حتى وقتنا هذا.
اقرأ أيضاً:
نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل (الجزء الأول)
علم الاجتماع في ميزان العقل (الجزء الثاني) .. أوغست كونت، النظرية الوضعية
أخلاق الفرد وتأثيرها على نفسه وعلى مجتمعه – هل الأمر مؤثر فعلاً ؟