غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا .. الجزء الثاني
الحدّ ومبدأ الاتصال
اللغز الأول الناجم عن تصور الحدّ ينبع من الظن الشائع بأن الحدّ يفصل بالضرورة بين كيانين –أو جزئين من كيانٍ واحد– رغم كونهما متصلين (Continuous). وقبل أن نُفصّل هذا اللغز تنبغي الإشارة إلى أن الكيانات الجغرافية –بخلاف معظم الموضوعات العادية– مرتبطة بدقة بمناطق المكان الذي تشغله، حتى إذا أصّر المرء على أن هذا الارتباط لا يعني وجود هوية بين الكيان الجغرافي ومكانه، فالموضوعات العادية يمكن أن تتحرك من موضع إلى آخر، أما الكيانات الجغرافية فمستقرة عادةً (أو متحركة بدرجة حدوث تغييرات جغرافية).
من ثم يمكن القول إن الكيانات الجغرافية ترث كثرةً من خواصها –مثل الخواص الهندسية والمورفولوجية (Morphological)– من أماكن قيامها، وتلك حقيقة يعلمها السياسيون ورسامو الخرائط (Cartographers) جيدًا حين يُقسّمون العالم وفقًا لمبادئ هندسة الفسيسفاء (Tessellation geometry)، أو حين يعتمدون على ألوان معينة في رسم خرائطهم. ويعني ذلك أن الجغرافيا تشتغل بنمطٍ هندسي من التمثيل (Representation) يجد جذوره في البنية الميريولوجية (Mereological structure) المفصّلة لعلاقات الكل بالجزء في العالم الممتد، أي تشتغل بكيانات ملتحمة، أو غير ملتحمة، أو ذات أجزاء ملتحمة بطرقٍ متنوعة، وهذه الكيانات تمتلك –بالإضافة إلى الأجزاء– حدودًا تسهم في تأليفها أنطولوجيًا.
لكن هل يمكننا تعيين الموضع الدقيق للحدّ أو التخم بين كيانين متصلين؟ خذ مثلًا “خط ماسون – ديكسون” (Mason-Dixon Line) الفاصل بين ماريلاند (Maryland) وبنسلفانيا (Pennsylvania) في الولايات المتحدة الأمريكية؛ خطٌ حدودي قام على مسحه ورسمه الفلكيان البريطانيان “تشارلز ماسون” (Charles Mason) و”جيرميا ديكسون” (Jeremiah Dixon) في الفترة من عام 1763 إلى عام 1767، ويفصل جنوب بنسلفانيا عن شمال ماريلاند، وتخيل أننا نعبر هذا الخط الحدّي: ما الذي يحدث حينئذ؟ هل نمر عبر نقطة أخيرة (ق) في ماريلاند ونقطة أولى (ل) في بنسلفانيا، أو العكس؟
الإجابة بالنفي قطعًا، لأن مبدأ الاتصال الرياضي (Principle of continuity)، القائل في منطوقه البسيط بوجود عدد ثالث بين أي عددين في أية متسلسلة تامة الترتيب، يخبرنا بوجود عدد لا متناه من النقاط بين (ق) و(ل)، وهو ما يُعرف باسم “كثافة المتصل” (Density of continuum)، وبالإضافة إلى استحالة عبور هذا العدد اللا متناهي من النقاط نظريًا، فإنها –أي النقاط– لا تنتمي إلى أيٍ من الكيانين الجغرافيين المتصلين! فإذا افترضنا مثلًا وجود واحدةٍ فقط من النقطتين (ق) و(ل) –كما يُلزمنا العلاج الرياضي للمتصل– كان علينا حينئذ تعيين التخم بين أي دولتين على واحدةٍ منهما فقط، وأي خيار منهما سوف يكون تمييزًا لدولة على أخرى! وبالمثل، لا يمكننا في هذه الحالة القول بتطابق (ق) و(ل)، لأننا نتحدث عن دولتين متجاورتين، بحيث لا يمكن أن تكون لهما أجزاء مكانية مشتركة!
الحق أن هذا اللغز ليس خاصًا بالتخوم الجغرافية فقط، لكنه مجرد مثال نوعي لمشكلة تصور الحدّ بصفة عامة، وهي المشكلة التي عبّر عنها “ليوناردو دافنشي” (Leonardo da Vinci 1452– 1519) في فقرة مشهورة من كتابه “مذكرات” (Notebooks) قائلًا: “ما الذي يفصل الغلاف الجوي عن الماء؟ لا بد وأن ثمة حدًا مشتركًا بينهما لا هو بالهواء ولا هو بالماء، بل بلا جوهر، لأن أي جسم يتوسط بين الجسمين سيمنع تلامسهما، وهذا لا يحدث في حالة الماء مع الهواء”.
وفي صياغة مماثلة تساءل الفيلسوف الأمريكي “تشارلز بيرس” (Ch. S. Peirce 1839– 1914) عن ماهية خط التحديد الفاصل بين بقعة سوداء وخلفيتها البيضاء: “ما لون هذا الخط بدقة؟ وكيف نستطيع عبوره؟”.
مرة أخرى، إذا وضعنا في أذهاننا كثافة المتصل فسنجد أننا لا يمكننا المرور عبر آخر نقطة سوداء (ق) وأول نقطة بيضاء (ل)، لأن هناك عددًا لا متناهيًا من النقاط بينهما، وهي بكيفية ما ليست سوداء ولا بيضاء! ولا نستطيع القول إننا نعبر نقطة حدّية تحمل اللونين معًا، فإذا ما افترضنا وجود نقطة واحدة فقط }(ق) أو (ل){، كان ذلك تفضيلًا غريبًا لمنطقة على أخرى! وحتى إذا لجأنا إلى اعتبارات الشكل–الأساس (Figure/Ground) للإجابة عن سؤال بيرس، تأسيسًا على المبدأ القائل بأن الحدّ خاص دائمًا بالشكل، لأن الخلفية مفتوحة طوبولوجيًا، فسوف تحيط بنا تساؤلات من قبيل: ما الشكل وما الأساس حين ننظر إلى جزئين متجاورين في البقعة السوداء ذاتها؟ وما الشكل وما الأساس حين ننظر إلى خط التحديد بين ماريلاند وبنسلفانيا، أو بين الماء والهواء؟ في مثل هذه الحالات لا يجد الحدس البسيط تفسيرًا يقدمه، وهو ما يحملنا إلى اللغز الثاني من ألغاز الحدود.
الحدّ بين الواقع والخيال
لا شك أن تعريف “أرسطو” الميريولوجي للحدّ، والذي تؤيده نظرة الحس المشترك، يبدو فقط صالحًا للتطبيق على عالم الكيانات المتصلة. لكن الموضوعات المادية العادية –وفقًا للنظرة الفيزيائية المعاصرة، لا سيما بعد ظهور ميكانيكا الكمّ (Quantum mechanics) والميكانيكا الموجية (Wave mechanics)– ليست متصلة أو كثيفة على نحوٍ دقيق، بل إن حدودها المكانية هي فقط محض كيانات متخيلة محاطة بحشودٍ من الجسيمات دون الذرية (Subatomic particles)، وهذه الأخيرة ذات أشكال ومواضع عشوائية تذكرنا بلوحات الرسم التأثيري ذاتية الطابع، كما تذكرنا أيضًا بحالة الجسم المتحرك لحظة توقفه عن الحركة، فمن المفترض وفقًا لنظرة الحس المشترك أن يكون هناك حد صفري يمثل سكون الجسم في تلك اللحظة، لكننا نفاجأ بأن المجموع الكلي لمتجه (Vector) الحركات العشوائية لتلك الأعداد الضخمة من الجسيمات التي تؤلف الجسم –بأخذ المتوسط على الزمن– ليس صفرًا (Non-Zero)، وبناء عليه فلا معنى للحديث عن اللحظة الحدية التي يتوقف عندها الجسم عن الحركة!
السؤال الذي يواجهنا الآن: هل الحدود مجرد كيانات متخيلة: إسقاطات للعقل على المكان والزمان بغية تمييز الأشياء وتحديدها في تصورات مقبولة؟ هل هي مجرد مجازٍ كلامي (Facon de parler) يعكس شكلًا من الواقعية الميتافيزيقية (Metaphysical realism) يستعصي على التبرير؟ أم أنها بالأحرى معطيات صلبة للواقع؟
الحق أننا إذا نظرنا إلى الحدود أنها تجريدات غير واقعية للعقل، ورفضنا التعيين الأنطولوجي الفعلي لها، لوجدنا أنفسنا أمام مفارقة صعبة، فالناس يشعلون الحروب حول مناطق هذه الحدود، ويكرسون حياتهم للدفاع عن تخوم بلادهم أو لتغييرها أو تحريرها، كما أن الجغرافيين والسياسيين يبذلون جهودًا ضخمة لمسح وترسيم الحدود بين الدول والجماعات المختلفة والمتنازعة سياسيًا أو اقتصاديًا أو دينيًا، سواء أكانت تلك الحدود مرفوضة من طرفيّ النزاع (كما في حالة خط الفصل في كشمير (Kashmir) بين الهند وباكستان)، أو كانت من طرف واحد فقط (كما في حالة التخم القديم بين ألمانيا الديموقراطية وألمانيا الاتحادية)، أو كانت قائمة على الاتفاق المتبادل بعد صراع طويل (كما في حالة الحدّ الفرنسي–الإسباني في سردينيا، والذي استغرق التفاوض حوله قرونًا طويلة). حتى في أوقات السلم تُعد الحدود بمثابة غشاءات (Membranes) سياسية–مكانية يمر منها الناس، وتُنقل البضائع، وتُهرب الثروات والمعلومات، إلخ، بما يعكس أهمية الحدود في الحفاظ على الهوية الحضارية للدول وأمنها القومي، فهل يتم ذلك كله على أساسٍ وهمي؟
ربما أمكننا إزاء هذه المفارقة أن نقيم تمييزًا تصوريًا بين الحدود الطبيعية (Natural boundaries) أو الحقيقية (Bona fide)، التي تستند في قيامها على وجود انقطاع فيزيائي (Physical discontinuity) أو اختلاف كيفي يفصل دون التصاق بين مكانين، أو بين كيانٍ وما يحيط به، وبين الحدود الاصطناعية (Artificial) أو الموضوعة (Fiat) الناجمة عن أفعال التدخل الإنساني بإصدار التشريعات والقرارات واللوائح السياسية (Political decrees)، أو القائمة وفقًا لمنظورات ثقافية أو إدراكية أو علمية معينة، فمن النوع الأول لدينا مثلًا تخوم قارة أستراليا (Australia)، وجزيرة مالطا (Malt) في البحر المتوسط، وبحيرة أنتاريو (Lake Ontario) جنوب شرق كندا.
ومن النوع الثاني هناك مثلًا تخوم ولاية ويومنج (Wyoming) الأمريكية، وقطاع دوجر (Dogger bank) البحري بين إنجلترا والدنمارك، ودولة العراق التي رسم حدودها المندوب السامي البريطاني “سير بيرسي كوكس” (Sir Percy Cox 1864 – 1937) سنة 1922، إلخ.
على أن هذا التمييز بين نوعي الحدود لا يؤدي بنا إلى تجاوز المفارقة، فعلى الرغم من الطابع الفيزيائي القطعي لما ندعوه بالحدود الطبيعية، فإنها لا تلبث أن تتحول إلى حدود موضوعة بمجرد تدخل الإنسان فيها بدافع من نظرته القومية، هذا فضلًا عن صعوبة تعيين الحدّ بين الماء واليابسة مثلًا، أو بين الماء والماء (كما في حالة تحديد نطاق المياه الإقليمية لدولة ما!).
بل وحتى لو تأملنا أي سطح من أسطح الموضوعات المادية –بما في ذلك متاعاتنا اليومية كالمناضد والسيارات والمباني، وغيرها– لوجدنا أنها تنطوي جميعًا على تحديدات مقصودة من نوع ما، الأمر الذي يعود بنا إلى نقطة البداية لنتساءل: هل ينطوي العالم على أية حدود حقيقية؟ وإذا لم يكن هناك وجود لمثل هذه الحدود، فهل يُعد ذلك سببًا كافيًا لتبرير الاتجاه ضد الواقعي من الحدود جميعًا؟ نؤجل الإجابة عن هذا السؤال ريثما ننظر في اللغز الثالث من ألغاز الحدود.
مقالات ذات صلة:
هل تختلف حقيقة الواقع باختلاف نظرتنا له؟
الحدود الإنسانية وكيف أن عدم الإلمام بها يأتي بأسوأ النتائج الحياتية؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا