بينَ الرَّحِمِ الأول والرَّحِمِ الأخير
تأملٌ في البدايات: الجنان، الأرحام، الأوطان، يخرج الإنسان إلى الدنيا من رحم أمه، ذلك الذي فيه تخّلق، إلى الأرض، تلك التي ستكون رحِمه الثاني والأخير، فعلى ظهرها سيتشكل وفي بطنها سيتحلّل. وبين الرحمينِ ثمة حالات لا تفارق الإنسان:
أولها: الدفع
بين الرحمينِ يعيش المرء مدفوعًا كل يوم نحو الرحم الأخير، كأن الدفع نحو المصير صار قدر الإنسان المحتوم الذي لن يفارقه منذ الدفع الأول، الذي خرج به من الرحم الأول بطن أمه حتى نهاية رحلته نحو بطن الرحم الأخير، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) الانشقاق، 6.
ثانيها: شوق العودة إلى الرّحِم الأول
ما أشبه الرحِم الأول وهو رحِم الأم بالجنة التي كان فيها أبونا آدم عليه السلام، وبيان وجه الشبه بينهما: أن المرء في رحم الأم كان محميًا من كل صور القهر أو الجوع والظمأ، يأتيه قوته دون مشقة أو تعب، وكذلك كان حال أبينا آدم عليه السلام في الجنة، قال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، طه، 118، 119.
إن هذا الخروج من الرحم الأول بالانفصال عنه، ليس هينًا على المرء منا، كما أنه لم يكن هينا على أبينا آدم في خروجه من الجنة لولا ما تلقاه من ربه، قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، البقرة، 37.
وآية عدم سهولته على المرء منا أن الواحد منا بعد هذا الخروج من الرحم الأول يظل يكابد على مجرى حياته من أجل استعادة هذا الأمان المفقود بذلك الخروج من الرحم الأول؛ رحمِ أمه.
سواء أكانت تلك المكابدة واقعة من الإنسان على مستوى الوعي: حيث البحث عن الأسباب المعنوية والمادية التي تُؤمّن الوجود خارج الرحم المفقود، أم كانت على مستوى اللا وعي: حيث حالات الخوف التي فيها يبحث الإنسان عما يحتويه أو يستره من أمر يتهدده، شأن بطن الأم في احتوائها للجنين، وكذلك حالات النوم التي فيها يتكوم الإنسان منكمشًا، كأنه يحن إلى وضعيته جنينًا.
وهو ما يعني أن علاقة المرء بنعيم الرحم الأول –سواء أكان رحم أمه أم كان رحم أبيه آدم وهو جنة الخلد– لا تنتهي وجدانيًا، وإن انقطعت أسبابها ماديًا، إذ إن الإنسان يظل ينشد في حياته هذا الفردوس المفقود ويشتاق له بكل ما أوتي من أسباب القوة المعنوية والمادية.
ثالثها: الحنين إلى الرحم الثاني
من شوق العودة إلى الرحم الأول رحِمِ الأم، يتشكل الحنين إلى الرحم الثاني الوطنِ، وبيان ذلك أنه إذا كان الرحم الثاني وهو الأرض أو الوطن، هو أول من يتلقى المرء بعد خروجه من الرحم الأول، فإن علاقة المرء بذلك الرحم الثاني تصير مؤسَّسة على علاقته بالرحم الأول، وعلاقته بالرحم الأول كانت علاقة انصهار كلي يختلط فيها جسده بجسد أمه.
وكذلك تصير علاقة المرء منا بوطنه رحِمِه الثاني الذي نبت لحمُه من أرضه، هي علاقة تعلّق جِبليّة شاء المرء منا أم أبى، إذ إنه –أقصد الوطن– أقرب الفضاءات للإنسان وأشدها ارتباطًا بذاكرته، لأنه المعادل المادي والموضوعي للوطن الأول وهو رحم أمه، على أكثر من مستوى:
- فمن الاثنين كان النماء، ومن ثم فإليهما لا بد أن يكون الانتماء، ولاحظوا: أن جذر الكلمتين واحد، أقصد: النماء والانتماء.
- ثم إن الإنسان يتسلى بقدرته على إمضاء وتنفيذ حنينه إلى الوطن رحمه الثاني، عن عجزه عن العودة إلى الوطن الأول وهو رحم أمه.
بمعنى أن حنين المرء منا إلى الرحم الثاني وهو الوطن سواء بأن يدفن فيه أو يعيش على أرضه أو يعود إليه، تعبير في العمق عن الحنين إلى الرحم الأول، وإذا كانت عودةُ الإنسان إلى الرحم الأول –رحم أمه– مستحيلةً بحكم السنن الكونية التي وضعها المولى، فإنه لا يمكن أن تكون كذلك مع الرحم الثاني، ومن هنا سر تعلّق الإنسان بالبدايات والأوطان وأماكن الصبا، إذ إنها –في العمق– تعزية عن عجزه عن العودة للوطن الأول رحمِ أمه.
ومعنى المعنى أنه إذا كانت (الجنة) المكان الذي احتضن اللحظات الأولى في عمر (أبينا آدم) عند (بداية الخلق)، فكذلك (رحم الأم) المكان الذي يحتضن اللحظات الأولى من عمر (كل بني آدم) في مرحلة (بداية التخلق)، وكذلك (الأوطان) المكان الذي يحتضن الإنسان في مرحلة (بداية التشكل).
بإيجاز: البدايات ثلاثة: جنة الخلد، ورحم الأم، والأوطان، والحنين إليها قدر الإنسان شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا