فن وأدب - مقالاتمقالات

المبرمج الشاعر العناق الأبدي بين الأدب والعلم .. الجزء الثاني

لقد سبق أن نصح عباس محمود العقاد الذين يريدون أن يبدعوا الشعر بأن يحفظوا ألف بيت ثم ينسونها، وبعدها يكتبون ما يريدون. أما يوسف إدريس فحكى ذات يوم عن الطريقة التي يستحضر بها الإلهام كي يكتب قصصه البديعة بأنه يغرق في قراءة الشعر، حتى يستجلب اللحظة المناسبة للكتابة، فإن جاءت نحى ديوان الشعر جانبًا، وبدأ في كتابته السردية. وكثير من الروايات الشهيرة في تاريخ الأدب ألهمت كثيرًا من الأدباء بعد قراءتها، بل إن رواية “مائة عام من العزلة” لجابرييل جارسيا ماركيز، التي ألهمت كثيرين من كتاب “الواقعية السحرية”، جاءته بعد أن قرأ رواية المكسيكي خوان رولفو “بدرو باراموا”، وذلك حين دخل عليه ناشر الرواية ورماها في وجهه وقال له: “اقرأ هذه الملعونة لعلك تتعلم الكتابة”.

لا يقف الأمر بالطبع عند نصيحة العقاد أو طريقة إدريس، فهناك ما هو أعمق من هذا بكثير حين نحلل تأثر النصوص الأدبية شعرية ونثرية، واللوحات الفنية بشتى المدراس التي وُزِّعت عليها، بما أبدعه الأدباء والفنانون السابقين كله، وبحصيلة إطلاع الأدباء على علوم ومعارف شتى، تزيد من وعيهم بالشخصيات والمواقف والأماكن التي يصورونها في أعمالهم.

كيف تتم عملية الإبداع؟

كما تعد الثقافة الشفاهية والسماعية مصدرًا آخر لهم، فأي أديب أو فيلسوف تعرض منذ أن وعي بمن حوله –وهو ما يتحقق للفرد ابتداء من سن الخامسة– لخبرات عديدة، إذ سمع كثيرًا ورأى كثيرًا، واختزن هذا كله في ذاكرته واستدعاه في الوقت المناسب، سواء كان واعيًا هو أم غير واعٍ بتلك الخبرة التي تراكمت لديه عبر السنين وعلمته كيف يرى الأشياء والأشخاص والظواهر بعين مختلفة عن غيره، لكنها ليست عين ذاتية محضة في الأحوال كلها إنما فيها إسهام لآخرين مروا بحياة الأديب أو الفيلسوف، فالمعرفة ليست بين دفتي كتاب فقط، بل هي أيضًا على ألسنة الناس وفي تصرفاتهم، ويمكن التقاطها بسهولة.

إن اللحظة الجمالية للفنان أو الأديب لا تأتي بغتة، أو وفق تصور ميكانيكي، فيبدع هو النصوص التي نقرؤها، إنما الإبداع لديه يشبه الجهد الذي يبذله الصوفي في التدرج نحو المعرفة الكاملة، بل تبدو عملية الإبداع أعقد من أن تُنسب إلى العفوية والذاتية وحدهما، فهناك حركة رأسية فيها من فكرة أو صورة مبهمة في رأس الكاتب، إلى نص يودع في كتاب، إلى تقييم ضمني في ذهن قارئ، إلى جانب الحركة الأفقية للنص بما هو مؤتلف من كلمات وجمل وفقرات متتابعة. وبذا فعملية الإبداع أشبه بالبذرة التي تدخل في مرحلة جنينية قد تكتمل في أسابيع، وقد تطول سنين، وطيلة هذه المدة يتغذى الجنين بما يصلح لنموه كله، ويتخذ الشكل الذي يناسب طبيعته واستعداده.

الذاتية والموضوعية

لم يقف الأمر في الحديث عن ذاتية الأدب إلى مبدعي النصوص فقط، بل امتد إلى ناقديها أيضًا، فقد كثر ورود كلمتي “الذاتية” و”الموضوعية” في معرض الحديث عن “النقد الأدبي“، فبات يقال “ناقد موضوعي” و”ناقد ذاتي”، لكن الحقيقة يحتاج الفطري لدى الناقد –الذي ينبع منه الجانب الذاتي– إلى مكتسبات تفرض الجانب الموضوعي. فمع تعقد الحياة وتعقد النص المُبدع أصبح هناك تأثير لعوامل أخرى في نظرة الناقد للنص منها: ثقافته العامة، دراسته للأدب والفلسفة وتاريخ النقد، الإلمام بمختلف العلوم والفنون، معرفته باللغات، بعد هذا كله مزاولة العملية النقدية والتدرب عليها، التدرج فيها بصبر وثبات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فضلًا عن الجانب المتعلق بالذاتي والموضوعي، هناك من يطالبون بالفصل بين الفن والعلم، من زاوية الفروق القائمة بينهما في الأداة، إذ إنها هي العقل بالنسبة إلى العلم، والوجدان بالنسبة إلى الفن، وكذلك فرق في الغايات، وفرق في النظرة والمنهج، فالعلم يعتمد على الحواس ويُخضِع كل شيء للتجريب، والفن يعتمد على الحدس. فرق آخر في اللغة، فلغة العلم غير قابلة للتأويل، أما لغة الفن فحمالة أوجه. والعلم كمي، والفن كيفي. وفرق كذلك في معيار الصدق والتثبت، فهو في العلم خارجي يعتمد على القياس الموضوعي، وفي الفن ذاتي داخلي وباطني، وهناك فرق في الثبات، فالعلم لديه مُكنة أكثر في مواجهة الإنكار والتشكيك والتناقض، في حين أن الفن محل اختلاف طيلة الوقت، ولا يستقر على حال.

الأدب والعلم .. تعانق أم تنافر

في المقابل هناك من يركزون على وجود صلاتٍ ووشائج بين الفن والعلم، من زاوية تقاطعهما وليس تطابقهما أو تماثلهما، ومن ثم فإن الفصل بينهما غير طبيعي وغير حقيقي إنما التمييز بينهما ضروري، بحيث نعرف حدود التباعد، وحدود التلاقي.

بل هناك من ينظر إليهما بوصفهما مركب واحد مع ثورة الاتصالات والتقنيات، وفي رأي هذا الفريق فإن ما هو فنّ يصلحُ لأن يكون علامات متقدّمة يهتدي بها العلم، ففنون البلاغة والأدب والعمارة والموسيقى والرّسم والتّصوير والنّحت تصير علومًا، لا سيما أن الفن لم يعد محض لهو ومتعة، وليس محض خلق لأشياء وعلاقات جميلة، وإن كان ينطوي عليها جميعًا، بل هو أيضًا يحمل رؤى إنسانيّة، ومضمونًا اجتماعيًّا، ويُعبّر عن موقف محدّد من الحياة. على الطرف الآخر فإن علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك تستفيد من الفنون، وقد استعان بعض رواد علم النّفس مثل كارل غوستاف يونغ وسيجموند فرويد، بالفنّ في بناء حججهم.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

نحو معايشة للمنهج النقدي

حاجتنا إلى النقد الأدبي الخلَّاق

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري