كثيرا ما يعتقد البعض أنّ ما نعانيه من مشكلات هو نتيجة لغياب المعرفة وضعف الثقافة في مجتمعاتنا وأنّ القضية تحل بمجرد المطالعة ومزيد من المعرفة وهو طرح مجانب لبعض جوانب الحقيقة وموافق لبعضها، فما نعانيه من مشكلات قد يكون أحد عناصرها غياب المعرفة ولكن ليس مجرد المطالعة والمعرفة والثقافة هي حل للمشكلة، بل في بعض أحيان تكون هي أحد موانع الفهم وإدراك الحقائق فحصول الإنسان علي المعلومات يجعله كأرشيف متحرك أو كقواعد البيانات المخزنة بأجهزة الكمبيوتر فليس هذا هو قوة الإنسان وتميزه بل العكس فما مُيِّزَ به الإنسان عن غيره من باقي الموجودات سواء كانت الحيوانات أو الجمادات هو قدرته التحليلية وانتزاع المعاني والقيم والمفاهيم وربط الظواهر ببعضها ولا يتأتى ذلك إلا بعقله.
تلك القدرة أحدى أهم مكوناتها هي المعلومات ولكن ليس وجود المعلومات هو شرط مانع لحدوث الفهم والإدراك بل هو أحد الأسباب، فاحتياج الإنسان إلى قدرة على انتخاب المعلومات المناسبة لطبيعة الموضوع محل التفكير، والبحث، والقدرة على ترتيب هذه المعلومات هي أهم خطوات فهم الواقع وإدراكه بشكل جلي، وذلك لن يحدث إلا إذا تحلى الإنسان بالقدرة التحليلية من خلال علم المنطق، ومن خلال إلمامه بالقواعد والخطوات العلمية السليمة في التفكير، فمن خلال ذلك يتعلم الانسان أن يختار المعلومات الأساسية لحل المشكلة من خلال إدراك المسببات الحقيقية للمشكلة ويكتسب القدرة علي التحليل والترتيب وربط الافكار ببعضها، فالإنسان إذا لم يتحلَّ بتلك القدرة صار كمن يقوم بتخزين وإدخال البضائع إلى المخزن دون أن يرتبها ويصنفها فعند رغبته في استدعاء بعضها يجد صعوبة في الوصول إليها وذلك لعدم تصنيفها وترتيبها فكذلك المعرفة إن لم تكن مصنفة ومرتبة يجد الإنسان الصعوبة في الوصول من خلالها إلى معلومات جديدة أو الاستعانة بها لحل بعض المشكلات بل قد تخلق له المعرفة مزيدا من المشكلات.
وهذا ما تعانيه نخبنا اليوم من غياب الوعي مع تحليها ربما بالمعرفة والمعلومات والشهادات والدرجات العلمية ولكن فقدانها القدرة علي التحليل، فما يميز مفكر أو شخص عن شخص ليست المعرفة في حد ذاتها بل قدرته علي تحليلها وصنع الاستنتاجات المناسبة وإن كانت معرفة بسيطة وهذا لن يحدث الا اذا تحلى الإنسان بالتحليل المنطقي من خلال معرفة بقواعد التفكير السليم من خلال علم المنطق واكتسب القدرة على المعرفة السليمة من خلال الاستخدام الصحيح لمصادر المعرفة، فقدرة الانسان على استخدام أداة العقل أو التجربة سواء كانت التجربة المعملية أو العملية وقدرته على التعامل مع النصوص وفهمها سواء الدينية أو غيرها ووضع باقي الأدوات في موضعها كالقلب أو الحواس الخمسة في اكتساب المعرفة هي من خطوات الفهم السليم.
فالإنسان لكي يعرف عليه أولا أن يعرف كيف يعرف وذلك من خلال إلمامه بمصادر المعرفة وإحاطته بحدود واستخدامات أدوات المعرفة وكيف يوفق بينها فمتى يستخدم النص؟ وكيف يتعامل معه؟ سواء كان دينيا أو غير وكيف يتعامل مع التجربة العلمية؟ وما هي حدودها في المعرفة؟ هل لتجربة الحكم علي سلوك الافراد وانتزاع القواعد الاجتماعية والمعاير الأخلاقية؟ أم لا؟ وكيف يستفيد من الخبرات الحياتية والتجارب الشخصية للآخرين في حياته؟ وكيف يستخدم عقله؟ بل والمشكلة الأكبر: كيف يوفق بينهم؟
فالإنسان يجد صعوبة عندما يحدث تصادم بين أدوات المعرفة في أن يفك تشابكا بين النص والتجربة أو بين النص والعقل أو بين القلب والعقل …الخ فإذا استطاع الإنسان أن يستخدمهم الاستخدام الأمثل كلٌ في مكانه ووفقا لحدوده استطاع أن يحصل على المعرفة والوعي واليقظة وذلك من خلال إلمامه بمصادر المعرفة. فهو كالمهندس الذي لديه إلمام بقواعد البناء فمن خلال إلمامه بكيفية تم بناء وتكوين منشأة يستطيع التنبؤ بعمرها وكفاءتها وقدرتها بل وتشييد بناء سليم وذلك لإلمامه بكيفيتها وكذلك إحاطة المرء بمصادر المعرفة وإلمامه بأدواتها يجعله قادرا على تكوين منظومة معرفية سليمة ومنطقية فليست القضية أن تعرف أكثر بل أن تفهم وتدرك للأمور بوعي ويقظة وأن تتحلي بالمنطقية والمنهجية في المعرفة وفي تحليل تلك المعرفة.