البحـــث عن الله
سمعته ذات مرة يقف على منبر رسول الله (ص) يتحدث عن فضل الإنفاق، ثم علا صوته واستدرر دمعاته، أخذ يطيح بيديه كلتيهما يمنة ويسرة: “هذا بيت الله .. وبيوت الله في الأرض المساجد، ولابد من عمل مئذنة تليق ببيت الله وإعادة تجديد المسجد”، تركته خلفي وانصرفت، يممت وجهي شطر منبر آخر، وجدت فيه قرينه يصدح ويصرخ: “أطع ولي الأمر كما قال رسول الله (ص) وإن أخذ مالك وجلد ظهرك، فطاعته من طاعة الله!”.
هكذا سمعت وهكذا عاينت، فضلا عن مئات الترهات التي أسمعها، ومئات الصور من الكذب والخداع والملق، فواحد لا يتحدث إلا مراءاة للناس وطلبا للسمعة والشهرة، وآخر لا يقرأ القرآن إلا طلبا للمجد والعالمية، وآخر يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بالصالحين الدوائر، وآخر يتاجر باسم الله، يتحدث باسم السلطان مزيفا اسم الله، يفتي عن السلطان في صورة الإفتاء عن الله. مئات المشاهد التي خلا الله منها تماما، ولكنه أُقحم عليها إقحاما إما جهلا وإما ملقا.
فالذين رأوا في تشييد المساجد والتفاخر بالمآذن والقبب قربة إلى الله جهلوا مرادات الله، لم يعلموا أدنى الحقائق عن الله، فضَلّوا الطريق إليه سبحانه جهلا. والذين يرون طاعته سبحانه في طاعة ولي الأمر وإن أخذ المال وجلد الظهر ملقة منافقون يبيعون آخرتهم بعرض قليل من دنيا بائسة. والذين كذبوا وخالفت أفعالهم أقوالهم جهلاء أعمت الماديات أبصارهم وغشي حب الدنيا بصائرهم فلا أدركوا هذه ولا تلك.
الله ليس في هذه الصور القميئة الكاذبة المدلسة
أرشدتني كتب الفقه والسيرة والوعظ جميعها إلى أن الله يسكن الحرم. ذهبت إلى هناك، وجدت أميرا يطوف حول الكعبة حوله حراس لا عدد لهم. لم يذهب متواضعا إلى بيت الله وإنما أخذ الدنيا معه.
وجدت الحرم قد استجاب الله دعاء الخليل له فهفت إليه الأفئدة واطمأنت إليه القلوب. يطوف حول البيت الأمراء والرؤساء والأثرياء، ويقف أمام عتبات البيت الفقراء والبؤساء، داخل الحرم تطوف أجساد بلا قلوب، وخارج الحرم تستجدي اللقمة قلوب بلا أجساد. الله ليس هنا إذن لا يقطن الحرم، فالذين قصروا ثروات بيت الله عليهم وتركوا فقراء المسلمين بلا مأوى ولا دواء هم حتما لا يعملون لصالح الله أبدا ولا لصالح الدين .
والذين ينفقون ويبذخون على شهواتهم وأهوائهم ولاعيبيهم وفنانيهم هم حتما لا يفعلون ذلك لصالح الله ولا لصالح الدين، إنما يفعلونه لصالح الأهواء والشيطان، لصالح الجسد وشهواته وأهوائه. الله إذن ليس هنا.
والذين أنفقوا أموالهم على المساجد _تشييدها وبناؤها بغير ضرورة ولا حاجة_ هم أيضا ضلوا الطريق، فالله ليس هنا.
الله ليس لدى الأمراء والزعماء والرؤساء كما يزعم الملقة، ليس في الحرم بيت الله الذي يحتكر ثرواته وخيراته آل بعينهم، ليس في المساجد التي تشيد فيها المآذن بثروات طائلة أو تطلى طلاء فاخرا أو يكثر بناؤها على غير حاجة.
أين الله إذا؟!
سرت في الشوارع، في الطرقات، في المدن، في المزارع أبحث عن الله، أخذت أقلب الكتب لعلي أهتدي إلى خيط. بحثت في كل مكان، فلم أجد الله في كل مكان أرشدت إليه أو دُللت عليه.
إلهي.. ما أعظمك! علمت من أنبيائك كلهم أنك تملأ كل شيء، أنت داخل البيوت وداخل الأرض، وداخل السماء وداخل الهواء. أنت في كل مكان حيثما وليت وجهي، ولكن هل أجدك في الحرم وقد امتلأ بالطبقية التي تبغضها أنت؟ هل أجدك فوق المآذن التي أقيمت رياء وبغيا دون أن يعلم المشيدون مراداتك؟ هل أجدك في دموع الكاذبين الذين يتاجرون باسمك؟ يهاجرون بظاهر اسمك ويخفون دنيا يصيبونها أو امرأة ينكحونها؟ أين أجدك يا الله؟
خرجت من الحرم بدون الله، خرجت من بيوت الله دون أن أجد الله، أو ليس صاحب كل بيت عاكف فيه؟ فلماذا لم أجد الله في المساجد؟ لعل علة أصابت عيني أو ربما قلبي فحجبت الرؤية عني!
ولكن الشوق يستبد بي، لم أيأس بعد، استكملت المسير بحثا عن الله، يسوقني العقل، تنبعث التساؤلات في ذات الآن الذي يلح فيه قلبي بحثا عن طمأنينته المفقودة السليبة، تلك التي زيفها الكَذَبة وباركها المنتفعون.
ابحث عن الله في قلبك
هداني إلى أول الطريق سيدي الجنيد: “ابحث عن الله في قلبك”، تذكرت حينها قول النبى الكريم (ص): “استفت قلبك”، مع فارق المناسبة ولكن المعنى بالتقريب متشابه إلى حد بعيد. الله إذن في القلب، هو إذن سر بكاء أهل العلم الذين ذكرهم القرآن: )وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( (الإسراء109).
إنه السر الذي فهمه السادة بحق من قبل، الجنيد البغدادي، القشيري، الخواص، جمع غفير من السادة الذين استدلوا على طريق الله، فتركوا الناس كلهم وراءهم وساروا يلتمسون إلى ذاته وسبحات وجهه الطريق. فهو الله الذي يقطن تحت الجبة في قول سيدي الحلاج، وهو الله الذي يضيء للقلوب الطريق فيقذف فيها النور في قوله ذاته سبحانه: )وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ( (النور40).
اهتدينا الآن إلى مكان الله، مكان غير متحيز ولا مشبه ولا مجسم ولا أي صفة معيارية مادية، ولكنه سبحانه موجود وجودا يليق بالجلال الذي نرى آثاره ولا نراه، نعاين نتائجه ولا نعاينه، فالجسد الآن غير مهيأ ولا مزود بقدرات خاصة تتحمل نوره سبحانه، فإذا كان الجبل قد اندك وموسى _وهو من أولي العزم_ خر صعقا من اندكاك الجبل إثر نور الله، فكيف بنا؟!
الموضوع ذو إشكالات ومعضلات عميقة إذا! ولكننا بالتقريب أدركنا شيئا من الطمأنينة إذ عاينا الله في قلوبنا.
المعنى الذي غاب عنا
الآن أدركت حين البكاء بحرارة على أي اقتراف في حق الإنسانية أدركت أن الله هو الذي يحرك القلوب. أدركت سر البكاء حين المناجاة حين الخلو بوجه الله، “لله عبادٌ اختارهم خدامًا.. قومٌ إذا جنَّ الليل عليهم قاموا هنالك سجدًا وقيامًا “. الآن أدركت سر البكاء وسر قبض القلب، وسر معاناته وسر أنسه وفرحته وسعادته التي لا تقدر بكنوز الأرض ومن فيها حين لحظة الاتصال، فما أعظمها من لحظة، وما أعظمه من شهود.
ولأن الله يسكن القلوب فالقلب يرشدني إلى أن أجد الله عند رأس المسكين الذي يقلب في القمامة ليستخرج لقمة يطعمها، نعم الله هناك، الله عند المريض الذي لا يجد دواءه، عند البائس الفقير الذي يدفعه الناس بالأبواب، عند الثكلى التي لا تجد من يؤوي صغارها، عند الكهف الذي يتعبد فيه من ترك الناس لدنياهم وخلا هو بربه، الله في كل هذه الأماكن، وليس أبدا في الحرم أو فوق المئذنة.
لعل هذا هو المعنى الذي فطن إليه سيدي عبد الله بن المبارك من قبل، كان ذاهبا إلى الحج فوجد أما لأيتام تنقب في القمامة لتطعم صغارها، فأعطاها مال الحج ورجع ولم يحج، فكان من أمره عجبا؛ وكل الله له ملكا على صورته يحج عنه، وكتب له أجر سبعين حجة.
هنا الله يا سادة، عند هذه المرأة وعند أترابها وليس عند بيت الله الحرام.
هنا الله
الله هنا في قوله سبحانه في حديثه القدسي: “عبدي استطعمتك فلم تطعمني، قال وكيف أطعمك يا رب وأنت رب العالمين؟ قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ استسقيتك فلم تسقني، قال وكيف أسقيك يا رب وأنت رب العالمين؟
قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ مرضت فلم تعدني، قال وكيف أعودك يا رب وأنت رب العالمين؟ قال مرض عبدي فلان فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟”، الله عند المريض، عند المتألم، عند المظلوم، يريد أن يرى إحسان عبيده ورقة قلوبهم.
هنا يسكن الله، هنا نجد الله وليس الله في قصور الأمراء والسلاطين وأرباب النعم، فليست لهم خالصة من دون الناس، وليست أعطياتهم على قربة لهم من الله، فقد تكون استدراجا من حيث لا يعلمون: )وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( (القلم45)، )سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ( (الأنفال81).
لقد فهم السادة الصوفية هذه المعاني فتركوا الدنيا وراءهم ولاذوا بخلواتهم بحثا عن ربهم، اقتصروا الطريق على أنفسهم فلم يضلوا إليه السبيل سبحانه، وإنما استدلوا عليه من أقرب باب ومن أقصر السبل، فوصلوا في حين ضللنا نحن الطريق، وكذب المنمقون اسم الله ولو بكت عيونهم، وكذب الخراصون الذين يتاجرون باسم الله وباسم الدين ولو ارتدوا مسوح الرهبان، وصدق القلب وحده حين استدل على الله، وصدق الفؤاد حين عاين الجلال والكمال.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.