قياس كتلة بوزون W وكشف أكبر كسر في عرش نموذج القياس للفيزياء
في شهر إبريل من سنة 2022، طلع بعض علماء الفيزياء ولأول مرة أعلنوا إنهم قاسوا كتلة واحد من البوزونات المهمة جدًا في علم الفيزياء الجسيمية، اللي هو بوزون W.
المذهل في اكتشافهم ده إن كتلة البوزون اللي قاسوها، طلعت أكبر بفرق بسيط من الكتلة اللي كان بيتنبأ بيها النموذج القياسي للفيزياء، ومعنى كده إن كان في غلطة كبيرة وفادحة في النظرية دي، واللي بسببها وصلنا لكل حاجة نعرفها عن الفيزياء الجسيمية حاليًا!
ده لو طلع صحيح فعلًا، هيكون معناه إن علم الفيزياء الحديثة كله ممكن يكون في خطر حقيقي، ويطلع فيه غلطات أكبر من مستوى استيعابنا نفسه!
كوباية شايك والنعناع، وتعالى بقى معايا النهارده أحكيلك إزاي ده حصل، ونفهم مع بعض ليه هو محوري كده في مستقبل الفيزياء كلها.
بعد عشر سنوات من اكتشافه .. ماذا تعرف عن بوزون دبليو؟
بص يا عم، الموضوع كله بدأ مع تجربة علمية ضخمة بدأت سنة 2001، واستمرت لفترة أكتر من 10 سنين، في مختبر علمي ضخم جدًا اسمه (CDF)، تابع لمعمل (FermiLab) الشهير في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، لحد ما انتهت أخيرًا سنة 2011.
التجربة دي هدفها الرئيس كان إنها تقيس كتلة حاجة اسمها البوزون W أو (W Boson)، وده لو إنت مش عارف، الجسيم الذري المسؤول عن نقل قوة التفاعل النووي الضعيف في الذرة، ولسنين طويلة جدًا، قياس كتلة الجسيم ده كانت صعبة للغاية عشان هو بيتحلل بسرعة فائقة مستحيل يتم رصدها بطريقة مباشرة، ونتيجة لده، كان لازم علماء الفيزياء يلجأوا لطريقة (Creative) شوية عشان يقدروا يرصدوه.
بس عشان تفهم الطريقة دي، وليه هما كانوا عايزين يقيسوا أصلًا كتلة الجسيم ده، لازم الأول تفهم حاجة مهمة جدًا، وتعتبر أساسية لأي كلام هنقوله عن الجسيمات الذرية، الحاجة دي النموذج القياسي للفيزياء.
إيه بقى النموذج القياسي للفيزياء ده؟!
ما هو النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
النموذج القياسي للفيزياء ده يا سيدي يعتبر أكبر وأنجح نظرية فيزيائية في التاريخ تقريبًا، وضعوها في الستينيات من القرن اللي فات، وتعتبر النموذج اللي بيضم جواه وصف كامل وشامل لكل الجسيمات الذرية اللي بيتكون منها أي حاجة في الكون كله، من أول أكبر حاجة في الذرة لحد أصغر حاجة فيها.
يعني باختصار، النظرية دي تعتبر النموذج الأساسي اللي بنبني عليه علومنا وكل اللي نعرفه عن فيزياء الجسيمات، وهي أفضل إطار علمي حالي للقوانين الأساسية للكون، وجواها بقى وفي أساسها، بتوصف 3 قوى أساسية من قوى الطبيعة، الـ3 دول همه: القوة الكهرومغناطيسية (Electromagnetism) والقوة النووية الضعيفة (Weak Nuclear Force) والقوة النووية الشديدة (Strong Nuclear Force).
القوة النووية الشديدة دي مسؤولة عن تماسك أنوية الذرات ومكوناتها اللي جواها، لكن في بعض الأنوية الذرية بتكون غير مستقرة، وبتمر بعملية من التحلل الإشعاعي (Radioactive Decay)، وفي خلال التحلل الإشعاعي ده، بينطلق منها جسيمات ذرية دقيقة في عملية بطيئة جدًا، ومحدش زمان كان فاهم بتحصل إزاي وليه.
لكن لما جت الستينيات بقى، ووضعوا النموذج القياسي للفيزياء، عرفنا أخيرًا إن القوى الرئيسة الخاصة بالكون بتنتقل من خلال جسيمات ذرية أولية بيسموها البوزونات (Bosons)، والبوزونات المسؤولة عن نقل القوة النووية الضعيفة اللي كانت محيرانا دي بيسموها بوزونات W وZ، ده غير إن في بوزون تالت اسمه بوزون هيجز Higgs Boson، هو المسؤول عن إعطاء الجسيمات دي كلها كتلتها، وده هو نفسه اللي تم اكتشافه في مختبر سيرن سنة 2012.
اقرأ أيضاً: الدورة الثالثة لمعجل سيرن واكتشاف 3 جسيمات ذرية جديدة على علم الفيزياء
اقرأ أيضاً: لحظة الكشف العلمي من الخيال إلى الواقع
كيف يتم قياس كتلة بوزون دبليو؟
بس المهم بقى إن العلماء كانوا دايمًا بيعملوا اختبارات عشان يتأكدوا من صحة النموذج القياسي للفيزياء، ويقيسوا كتل الجسيمات الذرية اللي بيتنبأ بيها النموذج، ويقارنوها بالكتل المتوقعة اللي ناتجة من الحسابات والمعادلات الخاصة بالنظرية، هتسألني طب ليه بيعملوا كده، هقولك عشان يتأكدوا إن النموذج صحيح بنسبة 100%، ويعرفوا لو في أي غلطات فيه ممكن تفتح مجالات جديدة للبحث.
الطريقة اللي بيعملوا بيها الاختبارات دي بقى طريقة مدهشة، اللي بيحصل بالظبط إنهم بيجيبوا الجسيمات الذرية الأولية اللي زي البروتونات والإلكترونات والنيوترونات وهكذا، وبعدين يسرعوها لسرعات فائقة قريبة من سرعة الضوء، ويخبطوها في بعض جوه مصادمات ذرية ضخمة متصممة مخصوص لكده، زي معجل سيرن التصادمي الهائل (LHC)، ومختبر فيرمي لاب (FermiLab)، وغيرهم كتير.
لما التصادمات الذرية دي بتحصل، فالجسيمات الذرية دي بتتحلل لمكوناتها الأولية، وبتطلع جسيمات ذرية جديدة خفية بتنقل قوى التفاعلات اللي بتنتج من التصادمات دي، والجسيمات الجديدة دي بقى هي اللي بيقيسوها ويطبقوا عليها اكتشافاتهم وأبحاثهم.
طيب تمام، إيه بقى اللي حصل في مختبر (CDF) بتاع فيرمي لاب ده؟ وليه مهم أوي كده؟!
ضرورة وجود بوزون هيجز؟
اللي حصل يا سيدي إن خلال فترة عمل المختبر الممتدة من سنة 2001 لحد سنة 2011، المختبر عمل مليارات عمليات التصادمات ما بين البروتونات والبروتونات المضادة، والبروتونات دي في الأساس بتتكون من جسيمات أولية تانية اسمها الكواركات (Quarks)، فلما بيحصل تصادم ما بين بروتون موجب الشحنة وبروتون تاني من المادة المضادة سالب الشحنة، بتتحلل البروتونات دي كلها للكواركات الأولية بتاعتها، البروتون العادي الموجب بينتج كوارك عادي، والبروتون المضاد بينتج كوارك مضاد.
التفاعل اللي بيحصل ما بين الكواركات والكواركات المضادة دي بقى هو اللي بينتج عنه بوزونات W أو الـ(W Bosons)، تمام لحد كده؟!
بوزونات W دي بقى العلماء كان بقالهم 40 سنة تقريبًا بيحاولوا يقيسوا كتلتها عشان يقارنوها بالنموذج القياسي، بس مكانوش عارفين يعملوا ده بدقة، عشان كانوا محتاجين يعرفوا كتلة بوزون هيجز الأول لإنه داخل في المعادلة اللي بيستعملوها في قياس الـبوزون W، ولما اتعرفت أخيرًا كتلة بوزون هيجز سنة 2012، كان عندهم فرصة إنهم يحسبوا الكتلة بتاعت بوزون W بأدق نتيجة ممكنة، وهو ده اللي عملوه بالفعل.
بوزون دبليو اكبر مما كان متوقعا
تخيل إنهم قعدوا أكتر من 10 سنين يعملوا تجارب وتصادمات، من سنة 2001 لحد 2011، وبعدين من سنة 2011 لحد سنة 2022 بيجمعوا النتايج بتاعت التصادمات دي وبيحللوها ويدرسوها، ويستعملوها في حساب الكتلة بتاعت البوزون! وكل ده باستعمال فريق علمي متكون من أكتر من 400 باحث فيزيائي، وتحت إيديهم بعض من أكثر الأجهزة الحاسوبية تطورًا في العالم، بيستعملوها في عمل برامج محاكاة للتصادمات دي، عشان يحسبوا بيها الحسابات بتاعتهم، بعيد عن أي خطأ بشري!
أظن أنت كده وصلت لفكرة عامة عن مدى تعقيد العملية دي، ومدى طول الوقت اللي استغرقته عشان يطلعوا منها بالنتيجة النهائية اللي أذهلت العالم كله في شهر إبريل اللي فات، ليه؟! عشان الكتلة بتاعت بوزون W، واللي كانت كل الحسابات والقياسات اللي اتعملت عليها قبل كده بتطلع نتيجة متوافقة مع النموذج القياسي للفيزياء، المرة دي طلعت نتيجة مخالفة ومتناقضة معاه!
النتيجة اللي طلعت أظهرت إن كتلة البوزون W أتقل من اللي بيتنبأ بيه وبيتوقعه النموذج القياسي للفيزياء بمقدار 0.1% تقريبًا، وطبعًا إنت ممكن تفتكر إن ده قدر بسيط ومش مهم، بس هتكون غلطان، عشان الفرق هنا وبالنسبة للأساسيات العلمية والبحثية اللي بيعتمدوا عليها في تجاربهم، كان أكبر من معامل الخطأ المسموح بـ8 مرات كاملين!
اقرأ أيضاً: الكواكب الخفية
اقرأ أيضاً: ميتافيزيقا في المعمل
قياس كتلة بوزون دبليو سيؤدي إلى إعادة صياغة نظريات الفيزياء
يعني باختصار، مستحيل يكون الفرق ده مقبول، بل بالعكس تمامًا، الفرق كبير جدًا ومذهل لدرجة إن الفريق العلمي لما شافه أول مرة مكانوش مصدقين نفسهم، وحاولوا يعيدوا حساباتهم كذا مرة، وفي كل مرة كانت بتظهر لهم نفس النتيجة!
كان الواضح قدام عيونهم إنهم لأول مرة تقريبًا في التاريخ، اكتشفوا خطأ وكسر في عرش أنجح نظرية فيزيائية في تاريخ العلم المعاصر، النظرية اللي بنعتمد عليها في كل حاجة بنعملها تقريبًا في الفيزياء الحديثة!
ده كان معناه حاجة من 3 حاجات، أول حاجة إن ممكن يكون الحسابات بتاعتهم فيها خطأ ما، وده طبعًا صعب جدًا عشان في مئات ويمكن آلاف العلماء اشتغلوا على الحسابات دي على مدى عقود طويلة، وتم استعمال أجهزة خارقة موجودة في معامل شديدة التطور زي مختبرات سيرن وفيرمي لاب وغيرهم، لعملها بعيدًا عن أي تدخلات بشرية، فمن شبه المستحيل يكون في خطأ بشري.
تاني حاجة إن ممكن يكون حصل غلطة في قلب العملية أو التجربة نفسها، والغلطة غير المقصودة والمجهولة دي ممكن تكون سببت الفرق ده، وده بيتم التأكد منه دلوقتي بمئات التجارب اللي بتتعمل في عشرات المختبرات العلمية في العالم، اللي بيحاولوا يكرروا نفس التجربة تاني، ومنهم معجل سيرن اللي بيحضر تجارب مستقبلية هتأكد النتيجة دي أو تنفيها بشكل قاطع.
تالت احتمال بقى، هو الاحتمال الخطير والمذهل، اللي بيقول إن في حاجة ناقصة في النموذج القياسي، وإن في قوة غامضة وخفية، وجسيمات ذرية جديدة وغير معروفة مسؤولة عن الفرق الغريب في الكتلة ده!
النموذج القياسي له ما له وعليه ما عليه
الحقيقة إن النموذج القياسي برغم كونه أنجح نظرية في تاريخ العلم زي ما قلنا، إلا إنه بردو مش بيفسر كل حاجة في الفيزياء، على سبيل المثال، لسه لحد دلوقتي مش بيفسر طريقة عمل الجاذبية، اللي هي القوة الرابعة من قوى الطبيعة الأساسية، ولحد دلوقتي بردو مش موجود في النموذج القياسي أي إجابة على لغز المادة المظلمة الغامضة اللي بتكون تقريبًا 27% من إجمالي حجم الكون اللي نعرفه، فبالتالي إحنا عارفين ومتأكدين إن لسه في حاجات كتير ناقصة في النموذج القياسي.
لكن لما يبقى النقص في حاجة أساسية المفروض إننا قسناها فعلًا قبل كده، وتنبأنا بيها بالمعادلات الموجودة فعلًا، زي كتلة بوزون W ده، فده حاجة غريبة ومذهلة جدًا، وممكن تكون سبب في أول مرة تعاد فيها كتابة قوانين الفيزياء الجسيمية من أكتر من نصف قرن كامل من اكتشافها!
الأبحاث دي تم نشرها في الدورية العلمية العالمية Science في شهر إبريل اللي فات، وده اللينك بتاعها أهو:
https://www.science.org/doi/10.1126/science.abk1781
متوقع في الفترة اللي جاية إنه هتطلع عشرات ويمكن مئات الأبحاث والأوراق العلمية اللي هتحاول تفسر الاختلاف في الكتلة اللي ظهر فيها ده، وممكن جدًا من ضمن الأبحاث دي تظهر فرضية جديدة تقلب المجتمع العلمي كله رأسًا على عقب، زي ما حصل كتير قبل كده في النسبية وميكانيكا الكم وغيرهم!
ساعتها، ده هيكون معناه إننا قدام عصر جديد من العلم الحديث، محدش فينا كان ممكن يتخيله قبل كده!
المصادر:
https://science.howstuffworks.com/w-boson-particle-physics-news.htm
https://slate.com/technology/2022/04/w-boson-explained-particle-physics-standard-model.html
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا