الحياة دي بقت مملة، كل يوم زي الي قبله! فين التغيير؟
اضطررت للسفر كثيرا في الأيام القليلة الماضية. فعملي في البحث العلمي يتطلب إجراء التحاليل المتنوعة التي قد لا تتوفر في جامعتي فأضطر للسفر لأماكن أخرى لإجراءها. أتبع في سفري رؤية معينة وهي أنني أفضل ركوب المواصلات العامة (كالميكروباص أو المشروع والأتوبيس) على مواصلات الأجرة والتاكسي. فالمواصلات العامة تتيح درجة من التفاعل الاجتماعي لا توفرها المواصلات الخاصة والأجرة، هذا التفاعل الذي هو في رأيي محاضرة عملية من واقع الحياة.
فكأنك قررت أن تتفاعل مباشرة مع الناس والمجتمع بدلا من أن تقرأ عن المجتمع في الصحف والمقالات والكتب. وعلى الرغم من أن هذا كان الشائع والطبيعي في قديم الزمن، إلا أنها تجربة لا تتوفر للكثير ممن حاصروا أنفسهم داخل مواقع التواصل الافتراضي والحياة الفردية الحديثة التي تحاول أن تبعد الإنسان أكثر فأكثر عن الواقع الاجتماعي المحيط به.
مختلف الحكايات في عربة واحدة
وفي خلال تلك السفريات تجد نفسك تشاهد الكثير من عناصر المجتمع المختلفة. فترى الموظف المنسحق تحت ضغط العمل والذي يحاول أن يمرر اليوم ويخفف من ضغوط الحياة بالبسمة البسيطة أو بالرد الحاذق المضحك أو بالسخرية المكتومة المتحفظة على الواقع المرير الذي نمر به. ترى أيضا الزوجة والأم والتي تسرع لركوب الحافلة مع أطفالها قد حملت في يديها حقائب مشتريات الأسبوع لتعود للمنزل مسرعة بعد أن أخذت الأطفال من المدرسة لتطبخ لهم ولزوجها الوجبة الشهية ولتهتم بباقي مهمات المنزل.
تجد أيضا الشباب الذين تشعر أنهم يعيشون خارج إطار المعاناة التي يعاني منها الكهول. فهذا يستمع للأغنية الحديثة للمغنى الفلاني، وذاك يلعب اللعبة الإلكترونية الحديثة على التليفون الذكي الجديد ذي الإمكانيات الصوتية والمرئية المبهرة. وهذه تخاطب حبيبها بالرسائل على هاتفها النقال الذي ملأت شاشته بالقلوب الحمراء والدباديب. وهذه تتسامر مع صديقتها حول أحداث اليوم.
تجد أيضا العامل البسيط كالبستاني أو الحرفي الذي ربما يستقل الحافلة بملابسه البسيطة التي تحمل الكثير من أوسمة الشرف والكد والعمل الحر الجاد والذي ربما لا يلاقي ما يستحقه من تقدير واحترام في مجتمع أعمت بعضه الحياة المادية بزخرفها وبهرجها عن الجوهر النقي لهذه النفوس البسيطة التي يبهرك قصة كفاحها ومعاناتها كما تبهرك أساطير وملاحم الإغريق والمصريين القديمة.
بوتقة الحياة
هي بوتقة إذن انصهرت فيها كل مكونات المجتمع (أو أغلبها) ويمكنك أن ترى هنا العملية التي تشكل في النهاية معدن المجتمع. فسبيكة المجتمع النهائية تنتج من خلال عملية الصهر والخلط هذه التي تذيب عناصره كالعامل والمزارع والأم والموظف وغيرها من العناصر في سائل مصهور واحد ليخرج من آتون أفران الصهر ويبرد فيكون لنا معدن المجتمع الذي ننتمي إليه ونعيش في داخله.
وتتفاوت المجتمعات في القوة كما وكيفا. فبتنوع مجالات الحياة تتنوع القوة كيفًا وبتعمق خبرة المجتمع في كل مجال تتسع قوته في المجال كمًّا. كان هذا التنوع هو مفتاح الخير والرفاهية للمجتمعات، فكان التكامل التجاري بين المجتمعات هو مفتاح السعادة. تماما كالأواني المستطرقة التي تفيض بالماء على بعضها البعض مهما قل كم الماء، فتحافظ على منسوب واحد فيها جميعا.
قوة الفرد وقوة المجتمع
وتقاس قوة المجتمع بمدى تجانس مكوناته وتقاربها في الخصائص، كالسلسلة الحديدية التي تحد من قوتها أضعف حلقاتها. فمهما عظمت وكبرت قوة بعض الحلقات دون العمل على تقوية باقي الحلقات بنسب متقاربة ومتجانسة، فإن المجتمع ككل ينهار عندما تتعدى الضغوط التي يتعرض لها قوة أضعف عناصره ومكوناته. كان هذا هو الاختلاف الجوهري بين النظرة المادية للمجتمع وبين النظرة العقلانية.
فبينما تدعو الأولى للاهتمام بتوسيع نطاق تحصيل القوة والثروة دون حد نهائي لهذا النطاق، مما يؤدي في النهاية لتعاظم القوة الفردية للبعض ولكن لا يؤدي بالضرورة لتعاظم قوة المجتمع ككل، رأت النظرة العقلانية أن التوسع في القوة يجب أن يتم بصورة متزنة تتيح لأصحاب الطموح والقدرة تحصيل أحلامهم وطموحاتهم دون أن ينسوا واجبهم تجاه الحلقات الأضعف في السلسلة الاجتماعية كالمستضعفين والفقراء والعاجزين عن العمل والإنجاز بنفس المستوى.
فتربط هذه النظرية تعاظم قوة الفرد بتعاظم قوة المجتمع في هذه الصورة، وذلك لكي لا تذهب هذه القوة المكتسبة هباءً إذا ما تعرض المجتمع للاختبار والضغط ماديا أو معنويا فينسحق بانسحاق أضعف مكوناته. ولذلك فإن الحفاظ على قوة طبقات المجتمع في حالة تجانس وتقارب والسماح لها بالازدياد والتعاظم مع الحفاظ على هذا التجانس لا يؤخذ على محمل منع الأقوياء من تحصيل المزيد من القوة كما يريد أن يفسره البعض. ولكن على محمل التأكد من الحفاظ على هذه القوة الجديدة المكتسبة وتخزينها بتجانس وعدل في كل حلقات المجتمع بما يعود بالفائدة على الكل قويا وضعيفا.
حروب النظريات والأفكار
سعت كل نظرية أن تنتج سبيكة مختلفة من المعادن الاجتماعية. كان لكل سبيكة مميزات وعيوب تتفاوت مع طريقة التصنيع والعناصر المستخدمة. وروجت كل نظرية لمنتجها الاجتماعي على أنه أكسير الحياة وحجر الفلاسفة الذي يمكنه حل كل معضلات الحياة الاجتماعية. لم تبدأ هذه المنافسة في العصور الحديثة، بل كان هذا هو ديدن الإنسانية منذ قديم الأزل. فلكل مجموعة بشرية مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدعى أنها ترياق الإنسان وعلاجه.
وسعت إما بالطرق الناعمة أو القاسية لنشر هذه الثقافة أو تلك. وأثمر عن ذلك صراع وتفاعل الحضارات الذي ربما نشاهد عنه مقتبسات ولمحات في صرح التاريخ والحضارات. قصص وملاحم حكيت عن أشخاص لم يمتلكوا في البداية إلا فكرة أو نظرية وقرروا في لحظة صراحة وتجلى أمام النفس أن يحولوا الفكرة لواقع. فبدأت الشجرة ببذرة والنهر بقطرة أو كما يقول الشاعر:
كـل الحوادث مبدؤها من النظر … ومعظم النار من مستصغر الشرر
ولم يتوقف هذا الصراع بتقدم الزمن، بل ازداد جسارة وزاد فيه الهرج والمرج. فرأينا حروبا خلفت أبشع الصور، من قتل وهدم وترويع للبشر. فكانت الحروب العالمية وحرب الاستيطان والعنصرية الدينية في فلسطين، وحروب الهيمنة والاستكبار في جنوب شرق آسيا كفيتنام والحروب الكورية والصينية والروسية والأفغانية العراقية والكوبية… إلخ وغيرها في قائمة يطول سردها لكن لا تقارب شيئا في طول قائمة ضحايا هذه الحروب والنظريات.
عصر سيولة الأفكار
فلما أفاقت البشرية على هذا الواقع الأليم شخصت الأزمة بنجاح وهي الظلم والجور والعدوان. ولكن لم تشخص سبب الأزمة بنفس الدقة والاهتمام لأسباب خاصة بكل فريق. ولكن اتفقت البشرية في النهاية أن السبب في الأفكار. فلو لم تكن الأفكار لم تكن الطموحات والمشاريع وما كان لينتج عن تلك المشاريع الصراعات والحروب التي أدت في النهاية للمعاناة والضحايا. فدخلنا في عصر ما بعد الحداثة. عصر الحرب على المطلق وعلى الأفكار، لا من منطلق إنكار الأفكار أو التفكير، ولكن من منطلق سيولة النظريات وتعويم مبادئ الحق والعدل والخير.
فلا تحارب من أجل فكرة معينة على أنها الحق، لأنك قد تكون مخطئا وقد تكون مصيبا ولكن حارب من أجل الواقع الذي نحن على يقين من وجوده وهو الواقع المادي المحسوس. فلتسخر قدرتك للمحاربة من أجل لقمة العيش الهنية والكساء والمسكن والتعليم وخلافه من ضروريات الحياة. هذه الضروريات التي تتيح لك أن تتزوج لتنجب المزيد من الأطفال ليتعلموا ويعملوا ليكونوا المزيد من العائلات والأطفال في سلسلة لا نهائية من العمل والسعي والاستهلاك المادي دون غاية واضحة في الأفق.
فقدان الوِجهة والهدف
لقد امتلك محارب الساموراي غاية كان على استعداد للموت من أجلها، وامتلك المغول والتتار غاية قتلوا الكثير لأجلها… وغيرهم الكثير كنابليون وهتلر. لكن انظر ماذا جنينا من وراء هذه النظريات والرؤى والطموح؟ لقد جنينا الكثير من المعاناة والشقاء. هكذا هي رؤية العدمية وما بعد الحداثة عن الواقع… لا توجد غاية حقيقية، فلنترك كل من يريد يفعل وكل من يفعل يريد طالما أنه لا يمنع عنا الحقوق المطلقة الحقيقية الوحيدة التي نتفق عليها جميعا وهي حقوقنا المادية.
فتحول الإنسان من حيوان ناطق في نظريات الإغريق للحيوان الاقتصادي (الاستهلاكي) في النظريات الحديثة. ومن سليل وربيب الآلهة في الأساطير الإغريقية والمصرية القديمة ومن مخلوق مكرم من خالق كريم في الأديان الإبراهيمية حيث التناغم والنظام والغاية، لقريب القرود وسليل إنسان الغاب ووليد العشوائية والشهوانية واللاغائية في الفكر الحديث.
كانت هذه هي العناصر الإضافية التي زودتنا بها الأفكار المادية الحديثة في بوتقة المجتمع. فنتجت عنها السبيكة الاجتماعية التي نعايشها اليوم. سبيكة إنسانوية مركزيتها الإنسان تعمق الذاتية والأنانية وتقزم الاجتماعية والإنسانية الحقيقية، وتسحق الكثير في معاناتهم من أجل رخاء ورفاهية الكثير في قصورهم.
جاءت هذه النظرية لتلعب على أوتار القلب الحزين المجروح من تجارب متكررة كثيرة يحاول فيها الحصول على المزيد من الراحة والرفاهية.
تنام وتصحو الدنيا على أنغامه … عود لعبت بالقلوب أوتاره
الأزمة والحل
وكلما خطى خطوة تقربه من نبع الماء الصافي تحت لهيب شمس الصحراء المحرقة، وجد النبع سرابًا وخيالًا كونه نسج الخيال وانكسار الضوء فتوهم أنه أصاب الخلاص ليجد نفسه في مزيد من العناء والمشقة. فقرر بدلا من دراسة ظواهر انكسار الضوء وجغرافيا الصحراء ليخرج من هذا التيه، قرر أن يتوقف عن النظر أصلا وأن يقتلع عيناه وأن يتأقلم مع حرارة الشمس وسخونة الرمال حتى يفنى أجله ويموت أو أن تقذف له المصادفة سحابة مطر أو قافلة تعطيه بعض الماء.
مجتمع لقيط لم يعد يعرف أصله ولا نسله الفكري ولا الثقافي ولا الحضاري، وليست له أي رؤية مستقبلية يغير بها من حالته نحو الأفضل. بل ينتظر القافلة الأمريكية أو الإنجليزية بل وربما الصهيوينة لتعطيه بعض الماء ليتقوى على الحياة ربما لأيام قليلة أخرى لا أكثر.
لكن السؤال هنا لماذا أصلا نكافح من أجل البقاء في هذه الظروف السوداء الحالكة؟ هل من أجل المزيد من المعاناة أم من أجل المزيد من الرفاهية؟ وأين هي تلك الرفاهية التي يعدوننا بها؟ كل مرة نسأل عنها يقولون لنا عليكم أن تسيروا بضعة كيلومترات أخرى لتصلوا لواحة الرفاهية. وفي كل مرة تتخبط أقوالهم مع المرة السابقة في نظام عالمي يتعمد تعميق هذا التيه وإطالته لأكبر حد ممكن.
لأن مصلحته المادية تعتمد على استثمار واستغلال مواردنا وقدراتنا لمصالحه الشخصية ولو حدث وأفقنا من غفلتنا وأدركنا حجم قوتنا الحقيقية، فسيكون النظام العالمي في مأزق حقيقي؛ لأننا سنمنع عنه فرصة استغلالنا واستنفاذ مواردنا وسنستطيع إخراج منتجنا الثقافي وسبيكتنا الاجتماعية للوجود مرة أخرى.
اقرأ أيضاً .. الكوميديا ودورها الهام في الغزو الثقافي
اقرأ أيضاً .. المثاليون خبراء التعطيل
اقرأ أيضاً .. كوكب اليابان الشقيق
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.